«توماهوك» بطل الديمقراطية

«توماهوك» بطل الديمقراطية

لا يعير الكثيرون أي انتباه إلى المفارقة في استخدام الإدارة العسكرية الأمريكية أسماء القبائل المحاربة الهندية المنسية من ذاكرة التاريخ بعد إبادتها جماعياً في تسمية طائراتها المروحية التي وزعت قنابل «الديمقراطية» ونيران «الحريات» وصواريخ «الاستقرار» في شتى أصقاع العالم، و التي لا تبتغي إلا التشويه الوقح لحضارات الشعوب..

وتبدو حجة الإدارة العسكرية الأمريكية ثابتة: «نحن نتابع موروثنا العسكري بتسمية منجزاتنا التقنية بأسماء أبطالنا الأشد بأساً وصلابة»، ومدعومة بوثائق عسكرية تبين توجه الإدارة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي إلى اختيار الأسماء الهندية في تسمية العتاد العسكري بسبب ما تحمله من دلالات قتالية شديدة التأثير على الأعداء، لكن خبث هذا الجواب لم يمنع حركات التجمع المدني الهندية ومن يدعمها من المؤرخين المستقلين برفض هذه الحجة جملة وتفصيلاً، مستغربين تركيز الحكومة الأميركية على «تكريم» أبطالهم فقط فيما يخص آلات الحرب والقتل العسكرية، وإهمال جميع الجوانب الثقافية الحضارية الأخرى التي تمتع بها تراثهم الغارق في القدم، لتختفي هنا التسميات الهندية أمام تسميات «الرجل الأبيض»، مرفقة بملاحظاتهم الدائمة حول تصوير الهنود الحمر من السكان الأصليون بأنهم شعب همجي بربري متخلف لا يعرف سوى الرقص حول النار والصراخ عليها بصوت عال وهذا ما عبر عنه «لاري ايكوهوك» معاون وزير الداخلية لشؤون الهنود الأميركيين في إدارة الرئيس أوباما بقوله: «لقد سئم الهنود الأصليين سكان هذا البلد من عزلهم في خانة محبي الحروب، او تسخيفهم كمحبين للغناء وارتياد الكازينوهات فقط ، والإهانة الكبرى أتت من الجيش الأميركي ومبادرتهم الخاصة بتسمية الحوامات الحربية بأسماء مستوحاة من الثقافة الهندية..»
لم يتوقف الأمر على الحوامات الحربية فحسب، فصاروخ «توماهوك» ذائع الصيت في هذه الأيام هو اسم مستوحى بالكامل من تلك الثقافة فـ«التوماهوك»  نوع من الفؤوس في أمريكا الشمالية استخدمه الهنود الحمر الأمريكيون الأصليّون، وهو فأس قصير حادٌّ مع مقبض عمودي خشبي عادة، وكان استعماله بيدٍ واحدةٍ للقتال القريب أو للرمي بشكل مباشر على الخصم في القتال البعيد.
لكن الموضوع وصل إلى حد لا يطاق حين تم إطلاق الاسم «جيرونيمو» Geornimo على أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق شخصياً كاسم حركي في المهمة الأميركية الأخيرة لتصفيته عند الحدود الباكستانية، وذلك وفق اعترافات مدير الاستخبارات الأميركية «ليون بانيتا» في مقابلة تلفزيونية عام 2011 ، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من السكان الأصليين من الهنود، واصفين هذه الفعلة بأنها محاولة جديدة لترسيخ صورة الهندي الأحمر الهمجي الإرهابي في وعي الجمهور الأميركي، لأن «جيرونيمو» كان أحد قادة قبيلة الأباتشي الهندية في القرن التاسع عشر والذي دافع عن أفرادها وأرضها ضد القوات «الفاتحة» الأميركية وقد عرفه التاريخ شجاعاً ومحارباً بارعاً و توفي في سجن أميركي عام 1909 بعد 23 سنة من الأسر هناك.
تعاني الثقافة الأميركية من عقدة تقبل الحضارات والثقافات الأخرى، على الرغم من تنوعها الديمغرافي والعرقي الكبير جداً، وشهد تاريخها الحديث نسبياً العديد من حوادث «التطهير» المستندة على الاختلاف الحضاري، وما زال إعلامها الرسمي وغير الرسمي يذخر بالكثير من التجاوزات التي تدل على مشكلة عميقة الأثر في المجتمع الأميركي وتشوه كبير في طريقة تقبل الفرد للآخر وفهم جوانب حضارته دون الوقوع في أفخاخ «النمطية» الإعلامية المتطرفة.