حجارة منزل..

حجارة منزل..

تقودني قدماي إلى أحد الأحياء الدمشقية الرائعة، فأسير في شوارعها النظيفة ومن الواضح أن شكلي ولباسي لا يليق بالمكان وسكانه، خاصة بعد أن هُجّرت، إذ أقيم عند أحد زملائي في العمل منذ أكثر من سبعة أشهر، وصديقي ودودٌ مخلص استقبلني مع عائلتي المؤلفة من زوجتي وأولادي الاثنين.

أدخل إلى إحدى الحدائق الأنيقة، وارتمي بتعبٍ على مقعدٍ خاو متأملاً المكان حولي.. يا إلهي.. ما أجمله! أسمع أصوات العصافير بعد أن نسيتها، وأسمع ضحكات الأطفال وهم يلعبون بسلام في المروج الخضراء.
آه... إني أفتقد كل شيء الآن، أفتقد منزلي وضحكات أولادي، فقد خطفت إحدى العصابات، ابني الأكبر البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، منذ خمسة أشهر، وبقي  أربعين يوماً في قبضتهم ولم يكن أحد يعرف مكانه، وقد طالبني الخاطفون بفديةٍ قدرها خمسة ملايين ليرة، لا أملك منها شيئاً. وبعد مفاوضاتٍ عديدة، وصل المبلغ إلى أربع مئة ألف ليرة استدنت معظمها، كما ساعدني صديقي ببقية المبلغ، وبالفعل أخلوا سبيله.
خرج ولدي وكأنه شخصٌ آخر.. يصرخ ليلاً أثناء نومه، لا يملك رغبة بمغادرة المنزل أو رؤية أصدقاؤه. وقد ساعده أخوه الأصغر ليتجاوز محنته.. واستمر بذلك إلى أن تم توقيفه من إحدى الجهات أمنية، رغم أنه لم يتجاوز ستة عشر عاماً بعد. عانينا مدة ثلاثة أشهر، دون أن نتمكّن من معرفة الجهة الأمنية التي أوقفته.
يا الله ..يا الله!  أشعر بأني لا أنتمي لهذا المكان، أفتقد رائحة هذه الأزهار وصوت نوافير المياه. بعد مضيّ الأشهر الثلاثة، خرج ولدي، وقد خسر ثلث وزنه، يعاني من جروح بليغة وآثار حروق أعقاب السجائر تملأ رقبته ويديه.. وماذا كانت تهمته؟!.
قالوا.. إنه شارك في بداية الأزمة،مع رفاقه بإحدى المظاهرات، يا للمهزلة، ففي بداية الأزمة كان عمر ابني هذا ثلاثة عشر عاماً، أي أنه كان قاصراً بكل ما للكلمة من معنى. أفهكذا يحاسَب القاصر؟!
آهٍ يا سكّان هذا المكان، من أين تأتون بهذه الضحكات، وكيف تستطيعون أن تمرحوا وتؤرجحوا أولادكم.  بينما لا أستطيع حتى أن أتذكر أيام الفرح.
 يجب أن أعود الآن إلى منزل صديقي، لكني لا أريد الدخول خاوي اليدين. ولا أملك في جيبي سوى سبعمائة ليرة فنحن في منتصف الشهر، مع ذلك يجب أن أجلب شيئاً. لعلّي أستطيع بما أملك من مال شراء بعض البرغل، وسأطلب من صديقي شراء العدس. وهكذا نستطيع أن نأكل البرغل يوماً و حساء العدس في اليوم الآخر. أما إذا أردنا مكافأة أنفسنا، فيمكننا أن نأكل مجدرة.
ها أنا أقترب من إحدى الأسواق الشعبية والحمدلله أن أولادي لم يأتوا معي، فوالله إن عيني تشتهي  كل ما تراه ولا أستطيع إغماضها. على أية حال سأشتري البرغل وأعود سريعاً.
ها هو ولدي الصغير يستقبلني بنظرةٍ ولا يقوى على النهوض، أقترب منه، وأقبّل رأسه، أسأله كيف كان يومك يا ولدي؟ فينظر إليّ بتعبٍ قائلاً : لا أعلم.
ثم اتّجهُ  إلى حيث تجلس زوجتي فتستقبلني بعينين دامعتين، وتعانقني باكيةً، لا أستطيع تحمّل هذا الموقف، فتسيل دموعي ولكني أسارع لمسحها فلا أريد لأحدٍ أن يراها.
أذهب إلى الغرفة التي ننام فيها جميعاً، وأمدّ يدي إلى جيبي، أخرج منها أربعة أحجارٍ، وأضعها في إحدى الزوايا، فهي ما تبقى من منزلنا، أحملها معي أينما أذهب وقد خصّصت واحدةً لكل فردٍ من عائلتي، سأعطيها لهم في الوقت المناسب.
فلا بدّ أن نعود يوماً لبناء منزلنا المتواضع.