في «باص» النقل الداخلي

في «باص» النقل الداخلي

وضعت في يده قطعتين نقديتين (15 ليرة سورية) وأخذت البطاقة الصغيرة. شققت طريقي بصعوبة إلى رحم الباص، الجو خانقٌ، اصطدمات نظراتي بعيونٍ هنا وهناك، أشحت بنظري بعيداً، لا مكان للجلوس، وقفت.

غريب هو فعل ركوب الحافلة الآن، تحديداً لأنه ليس غريباً على الإطلاق، مقاييس التفرد والاختلاف في الحرب تتغير: ليصبح أمراً اعتيادياً أن تغزو  الحشرات التي تتغذى على الموت والتلوّث دمشق، و أن يلتهم أحدهم قلباً ! أمّا ركوب الحافلة فهو حدثٌ استثنائي لأنه فقط بالغ الطبيعية.

يمشي الباص بطيئاً كسلحفاة ضخمة بلونه الأخضر الفاقع، هو النسخة الصينيّة المطوّرة عن باص النقل الداخلي الأزرق القديم، تغيّر الشكل الخارجي ذاك أخفى وراءه حينها انتقالاً عميقاً من ملكياتنا كمواطنين للحافلات- كإحدى تلك الحقوق التي كانت يوماً ما مُصانة - إلى امتيازات خاصة لشركات نقل غزّت العاصمة بحافلات صُممت من الداخل بمقاعد تواجه بعضها بعضاً لتخفيف شعورنا بالوحدة وإتاحة الفرصة لنّا كي نتواصل ولو بصرياً !!كما لو أنها تحاول أن تنسينا ما سُلب منّا وتزيّن شعورنا بالاغتراب الذي كان يزداد يوماً بعد يوم.

الباص يمشي رحلته الأبدية على خط سير (جوبر مزة أوتستراد) وتلك مفارقة يدركها فقط من يعرف هاتين النقطتين في جغرافيا المدينة، شتان بين صورة الحياة في جوبر وتلك التي تمشي سريعاً على الأوتستراد الشهير، يرموك كراجات، برامكة الحجر الأسود ، الأمر ذاته .. ينصهر المكانان ليشكّلا اسماً واحداً، ولا يتوقف الركّاب «المؤقتين»عند تلك المفارقة كثيراً، فالباص يحملنا مسافة من الزمن فقط، دون اشتراط العبور من النقطة «أ» حتى النقطة «ب»، نحن عابرون، نتغير، نصعد ونهبط، نلتقي ونفترق.

مكرر هو، أو ربّما مبتذل تشبيه واقع البلاد برحلةٍ على متن حافلة، إلا أنه بدا في تلك اللحظات شديد الدقة كما لو أن التوصيف رُسم توّاً، ألا يجتمع  التدافع والازدحام و«الغرباء المألوفين» والحركة والوجهة في حافلة وبلاد؟!

بدأ الشعور بالسلام المؤقت يتلاشى أمام الضيق من الازدحام والحر، أقف ضمن حشدٍ متعب ينتظر نهاية الرحلة، استطاعت أُذناي أن تلتقط خيط موسيقا رفيع تبثه مسجلة السائق، أرهفت السمع وميّزت: «إن راح منك يا عين حيروح من قلبي فين..»، كما لو أن الأغنية تركت زمن أفلام الأبيض والأسود والفساتين الرقيقة والحب كي تُبث لنا نحن ركاب الباص في عرض حصري.

يمكن لأغنية واحدة على متن حافلة أن تقلب الموازين، وتحول السائق من شخصية هامشية -لا يظهر منها سوى يدها الممتدة لإعطاء بطاقة الباص- إلى بطل رئيسي، أو شخصية اعتبارية،  في خبرٍ ضمن نشرة أخبارٍ  مُتخيلة..

■■