رفيق الصبان الذي «ورّطنا» في حبّ السينما
 خليل صويلح  خليل صويلح

رفيق الصبان الذي «ورّطنا» في حبّ السينما

رائد الموجة الثالثة للمسرح السوري، غاب كاتباً وناقداً من طراز خاص، مخلّفاً وراءه أرشيفاً ضخماً في السينما والتلفزيون وأبي الفنون. بعيداً عن بلاده، رحل صاحب «زائر الفجر» في القاهرة، حيث أمضى أربعين عاماً، لم يزر خلالها دمشق إلا في المناسبات.

 

يشبه الناقد الراحل رفيق الصبان (1931ـــ 2013)، صورة سوريا خلال فترة عودته إليها من باريس في أواخر خمسينيات القرن المنصرم. بلاد تعيش نشوة الوحدة السورية المصرية، والحماسة الوطنية المتأججة لجيل يتطلّع إلى تأسيس ثقافة تنويرية تردم الفجوة التي أحدثتها الانقلابات العسكرية المتلاحقة. 

هكذا، أطلق هذا المسرحي الرائد «ندوة الفكر والفن» (1959)، وكانت أول نواة مسرحية تستقطب الأفكار والتجارب الجادة، والوجوه الجديدة، ثم أسّس «فرقة المسرح القومي» (1960) كأول فرقة مسرحية رسمية، إذ استعان بنصوص من سوفوكليس، وشكسبير، وموليير، وألبير كامو، وتوفيق الحكيم، وألفريد فرج، بمشاركة كوكبة من الفنانين المتحمسين لتأصيل خشبة مسرحية مغايرة، مثل هاني صنوبر، ونهاد قلعي. 

وبذلك كان رائد الموجة الثالثة للمسرح السوري، بعد أبي خليل القباني، وعبد الوهاب أبو السعود. ما أن وضع اللبنة الأساسية للمسرح الحديث في سوريا، حتى التفت إلى الفنون الدرامية الأخرى، فأسّس «فرقة الفنون الدرامية التلفزيونية»، وأسهم في تأسيس «سينما الكندي» التي شهدت عروضاً سينمائية طليعية، وندوات ترافق هذه العروض بإشراف «النادي السينمائي». 

نحن إذاً، إزاء مؤسسة في رجل، نقل مخزونه المعرفي الذي راكمه خلال سنواته الباريسية إلى عاصمة الأمويين، بكامل شغفه وحيويته وطليعيته، لكن هبوب ريح أخرى مضادة في مطلع السبعينيات، أفرز ورشة جديدة ذات أجندة مختلفة في علاقتها مع الجمهور، ومفاهيم ثقافية ذات طابع تعبوي في المقام الأول، لتتكشّف عن روحية معادية، أجهضت أحلام رفيق الصبان ورفاق دربه. بدأ زمن علي عقلة عرسان وأشباهه، زمن تأويل النصوص أمنياً، وإطاحة حرية الخشبة في مهدها. عند استعادة ستينيات المسرح السوري اليوم، المسرح الذي اعتمد الفصحى، والنصوص الكلاسيكية العالمية، قد لا نوافق تماماً، على نخبوية هذه العروض، وقطيعتها مع المسرح الشعبي، وإقصاء عروضه عن خشبة المسرح القومي، لكنه سوف يبقى علامة استثنائية في تأصيل الفرجة المسرحية السورية، وصناعة ذائقة رفيعة، وفقاً لتطلعات تلك الحقبة الذهبية الخاطفة. 

فجأة وجد رفيق الصبان نفسه محاصراً، بأوامر إدارية بيروقراطية لا تتواءم مع مشاريعه الراديكالية في نقل أنوار باريس إلى أزقة حواري دمشق، فغادر البلاد إلى القاهرة، ولم يعد إليها إلا ضيفاً في مهرجاناتها، بلهجة مصرية خالصة، كان قد تدرّب عليها جيداً، خلال سنواته الأولى في مصر مدرّساً لمادة «كتابة السيناريو» في المعهد العالي للسينما، وسيزداد اسمه بريقاً مع كتابته سيناريو فيلم «زائر الفجر» (1972) للمخرج ممدوح شكري، الفيلم الذي أحدث ضجة كبرى خلال الأسبوع الأول من عرضه، قبل أن يجري منعه، ويُسمح به لاحقاً، بعد قص أجنحته رقابياً، وستتبعه عشرات الأفلام الأخرى، وإن لم ترق في طليعيتها إلى مستوى فيلمه الأول، أو حتى كتاباته النقدية عن أفلام الآخرين، لكنّ أهمية رفيق الصبان تتمثّل في تلك المروحة الواسعة من التجوال النقدي على مختلف التيارات السينمائية في العالم، خلال قرن كامل، من أورسون ويلز إلى أكيرا كيروساوا، وأمير كوستاريكا، مروراً بالموجة الفرنسية الجديدة، وأفلام الواقعية الإيطالية، والسينما العربية، كما وثّقها موسوعياً، في كتابه النقدي «السينما كما رأيتها» (2012)، و«توريط» قارئه في مشاهدة الأفلام التي يكتب عنها، لفرط حماسته أولاً، ورحابة النسيج الذي يحوك به نصوصه لإقناع الآخرين بأهمية الكنز الذي اكتشفه، وإبراز القطبة المخفية في هذه النصوص. وهو في ذلك، لا يضع مسافة نقدية، بين فيلم لمعلم كبير، أو لمخرج شاب يقف عند عتبة تجربته الأولى. هناك أيضاً حضوره الشخصي الذي يضفي بصمة خاصة، تميّزه عن سواه، لجهة نبرة الصوت، وغزارة المفردات في توصيف عناصر موضوعاته المشحونة بعاطفة وجدانية خلّاقة، وعابرة للجغرافيات، تتناوبها القسوة والشفافية في آنٍ واحد، بقصد تدريب الذائقة على الشغف بالجماليات المضمرة. 

غاب رفيق الصبان كاتباً وناقداً من طراز خاص، مخلّفاً وراءه أرشيفاً ضخماً في السينما والمسرح والتلفزيون، بعيداً عن بلاده، من دون أن يتخلى عن هويته الأصلية، فهو لم يُمنح الجنسية المصرية طوال أربعين عاماً من الإقامة. 

 

المصدر: الأخبار