فرانز كافكا عبقرية استثنائية غير قابلة للتصنيف

فرانز كافكا عبقرية استثنائية غير قابلة للتصنيف

فرانز كافكا «1883- 1924» من أكثر الكتاب في العالم إشكالية، إن كان من طبيعة حياته العادية، أو من خلال ما كتبه في مجمل أعماله، والتي قدم فيها نفسه أفضل ما يكون التقديم، أو من خلال شخصياته التي تناولها، أو التي أبدعها هي من صنف كافكا كاتباً إشكالياً. يتعذر على المرء تصنيفه في مذهب أدبي أو تيار فني، وعمقت هذه التصنيفات الثورات السياسية والفكرية التي اجتاحت العالم، وإن كانت فيما بعد لضرورات إيديولوجية أكثر منها هماً أدبياً صرفاً.‏

 



  في العام 1891 بدأ بكتابة تمثيليات لأخواته، ليمثلنها في أعياد ميلاد الوالدين، لكن علاقته بأبيه كانت معقدة للغاية. كتب في مذكراته: «الحادثة الوحيدة التي لدي ذكرى مباشرة عنها، ربما تتذكرها أنت أيضاً يا أبي، ذات ليلة ظللت ألح في طلب الماء، وأنا على يقين أنني لم أكن أقصد الماء بالضبط، ربما كنت أرغب في مضايقة الآخرين فقط، ومن جهة أخرى كنت أريد أن أسلي نفسي، وبعد أن فشلت التهديدات العنيفة العديدة في التأثير علي، انتزعتني من السرير، وحملتني إلى الشرفة، وتركتني هناك وحيداً فترة من الوقت برداء نومي خارج الباب المغلق... وأستطيع الآن أن أقول: إنني حتى الآن لم أستطع الربط بين طلبي للماء، وتركي خارج الغرفة أقاسي البرد، وحتى بعد عدة سنوات عانيت من الخيال المعذب من أن الإنسان الضخم، أبي، السلطة المطلقة، قد يأتي في أي وقت، ودونما سبب، فيخرجني إلى الشرفة، وأذكر أن هذه الحادثة جعلتني ولداً مطيعاً تماماً».‏

لا يمكننا تحديد تاريخ دقيق لمعرفة القارئ العربي بكافكا، لكن بدأ الاهتمام بأعماله في بداية الستينات من القرن الماضي، ولم تصلنا سوى شذرات من الكتابات النقدية التي تداولتها الصحافة الثقافية آنذاك. وجد القراء العرب فيه ميلاً للغموض والسوداوية المخيفة والمحبطة، وأعماله لا تتعدى كتابة الكوابيس، وتتحول شخصياته إلى كائنات خارجة عن النمط الإنساني على نحو كبير، يدهش القارئ العربي إذا علم أن التشيك يعتبرونه كاتباً فكاهياً، بينما يعتبره غونتر أندرس مؤلف كتاب كافكا، أنه إنسان متشكك يطال الشك لديه نزعة الشك ذاتها. والشيوعيون يرون في أعماله ميلاً إلى تعرية الرأسمالية، وينسبونها إلى الواقعية الاشتراكية، بينما يرى الفرويديون أنه النموذج العملي لعلم النفس الفرويدي. ويبدو أن عبقرية الرجل كانت أكبر من أي تصنيف.‏

بدأ كافكا الكتابة مبكراً، فمع انتسابه للجامعة التي دخلها كطالب يدرس الكيمياء لمدة أسبوعين تحول بناء على رغبته إلى قسم اللغة الألمانية، وصمد فصلاً كاملاً قبل أن ينصاع لرغبة أبيه، ويثبت على دراسة القانون مستسلماً، كتب في مذكراته: «كنت أعرف أنه لا توجد حرية حقيقية في اختيار المهنة، إن كل شيء عديم الأهمية بالنسبة إلي شأن الموضوعات التي درستها في مدرستي الثانوية، ومن ثم كان الشيء الوحيد الموجود هو إيجاد مهنة تتيح أكبر مجال لعدم الاهتمام هذا دون إيذاء غروري بشكل كبير، ومن ثم كان القانون، باعتباره الشيء الوحيد الواضح الجلي والمحاولات الاعتراضية الواهية من جانب غروري وزهوي والتفاؤل الذي لا معنى له، مثل الأربعة عشر يوماً التي درست فيها الكيمياء، ونصف العام الذي درست خلاله اللغة الألمانية، وكل هذه المسائل لم تفد سوى في تدعيم قناعاتي الرئيسية».‏
وفي هذه المرحلة كانت لديه الكثير من الكتابات، حتى أنه شارك بمسابقة للقصة في صحيفة تصدر بفيينا، لكنها لم تفز بأي جائزة، فيقوم صديقه ماكس برود الذي كان ينشر بعض المقالات بدعمه، فتظهر له كتابات في بعض الصحف.‏
أدب فرانز كافكا عصي على التناول للوهلة الأولى، ويرى ألبير كامي في كتابه أسطورة سيزيف أن كتابات كافكا عموماً تجبر القارئ على إعادة القراءة لعدم وجود النهايات والتفسيرات لديه معطاة بصورة غير واضحة، وهناك دائماً إمكانية مزدوجة للتفسير، وحتى بعد القراءة الثانية لا تبوح رموز كافكا بكل تفاصيلها.‏

في روايته «المحاكمة» نجد السيد جوزيف ك متهماً، لكنه لا يعرف بماذا؟ وهو متلهف للدفاع عن نفسه، ولا يعرف لماذا عليه الدفاع عن نفسه. ويجد المحامون أن قضيته صعبة، وفي الوقت نفسه لا يهمل الحب، ويتناول الطعام، حتى أنه لا ينسى قراءة الصحيفة. ثم يحاكم، وغرفة المحكمة مظلمة، وهو لا يفهم ما يجري، وإنما يفترض أنه محكوم، ودائما بماذا؟ لا يدري. ثم يأتي سيدان مهذبان ليدعواه إلى مرافقتهما، وهما يقودانه بكل تهذيب إلى ضاحية بائسة، ويضعان رأسه على صخرة ويقطعا رقبته، ولا يقول المحكوم قبل الموت سوى عبارة مثل كلب.‏
أما في القلعة، فهنا نجد التجربة الفردية لروح تبحث عن خلاصها، لرجل يطلب من موضوعات عالمه أن تخبره بسرها الملكي، والتحول لديه يمثل بالتأكيد التصور المرعب لأخلاقية الوضوح، لكنه أيضاً نتاج الدهشة التي لا حد لها، والتي يشعر بها الإنسان عند إدراكه للوحش الذي يتحول إليه، دون أن يبذل جهداً في ذلك.‏
في قصة «في مستوطنة العقاب» يصف آلة مؤلفة من سرير، يربط عليه المحكوم بالإعدام وهناك جهاز مؤلف من الإبر يقوم هذا الجهاز بوشم الحكم على جسد المحكوم، وقد صمم هذا الجهاز بشكل عبقري بحيث لا يسمح للمحكوم بالموت إلا بعد مرور اثنتي عشر ساعة من العذاب، وفي الساعات الست الأولى يظل الإنسان خلالها حياً يعاني بعض الألم، وحتى أن الآلة زودت بطعام إذا رغب المحكوم أن يتناول منه قبل موته، بالإضافة إلى رشاش ماء لغسل الدم والإبقاء على الكتابة نظيفة. والمشرف على الآلة يتغنى بمناقب الرجل العبقري الذي قام بهذا الاختراع، والذي أحيل على التقاعد، ومات قهراً، لأن آلته صنفت على أنها آلة لا تتناسب والإنسانية، ويحاول الآن أن يجرب الآلة على حارس أهمل واجبه في نوبة الحراسة، لكن الآلة لا تعمل بالشكل الصحيح، فيحاول إعادتها إلى سابق عهدها، ثم يقوم بتجربتها على نفسه، فتمزقه شر تمزيق.‏

هذه العبقرية انطفأت في ليل الثالث من حزيران عام 1924 نتيجة مضاعفات سرطان الحنجرة، وكان قد قال لطبيبه نتيجة الألم الشديد الذي عانى منه: «اقتلني وإلا كنت قاتلاً» وببطء انتقل كافكا خلال النوم إلى الموت.‏

 

آخر تعديل على الخميس, 06 حزيران/يونيو 2013 06:26