بدر شاكر السّياب في أيامه الأخيرة
عبد اللطيف أطيمش عبد اللطيف أطيمش

بدر شاكر السّياب في أيامه الأخيرة

هذه المقالة عن الشاعر الرائد بدر شاكر السياب، تحاول رسم بعض الذكريات الشخصية واللقطات التي سجلتها الذاكرة عنه في أوقات وأماكن مختلفة، وهي انطباعات كانت في الأصل مجموعة أفكار في أوراق مبعثرة وقصاصات من ذكريات يومية، سجلتها قبل أكثر من خمسين عاماً، لتكون جزءاً من مادة أدبية لسيرة ذاتية، ظلت مؤجلة سنة بعد أخرى، أنوي تدوينها عن طفولتي وحياتي مع الأدب والأدباء، والناس والأصدقاء الذين عرفتهم في أماكن شتى من العالم.

وقد حرصت أن أنقل معي أينما ذهبت، تلك المفكرات اليومية المسجلة في جذاذات، أصبحت صفراء ومهترئة لطول العهد، لأنها تشكل المادة الأساسية المدونة عن ذكريات الماضي. أما القسم الأكبر منها فهو مسجل في الذاكرة، التي رغم ما أصابها من الوهن والتشتت بمرور السنين وتقدم العمر، ظلت لحسن الحظ محتفظة بشيء من وهجها وقدرتها على تخزين ماضي الأحداث والأسماء وتفاصيل المشاهد وأماكن الذكريات.

ولهذا وبعد أكثر من نصف قرن من الزمان، فأنا أعتذر للقراء، إن وقع في هذه الذكريات شيء من الالتباس في الأسماء أو التواريخ أو تسلسل الأحداث، لأنني في الحقيقة أكتب من الذاكرة عن عالم بعيد منسي لا يمكن إستعادته، وعن حياة عبرت وإختفت، ولم يبق لها وجود إلا في الذاكرة المتعبة.

أكتب عن أناس تعرفت عليهم في ظروف عاصفة، وجمعتني مع بعضهم صداقة حميمة، شكلت بمرور السنين جزءاً من حياتي وذكرياتي، بعضهم غيبهم الموت، وبعضهم لا أعرف أين هم الآن، وأين قذفت بهم الأيام، مع حسرة دائمة وعميقة في القلب، وأمنية شبه مستحيلة في أن أراهم ثانية وأستعيد معهم ذكرى تلك الأيام .. ألا سقياً لتلك الأيام، ورعياً لذاك الزمن الذي لن يعود.

هذه المقالة في تذكر السياب، أحاول أن أسجل فيها ما بقي منه في ذاكرتي منذ لقائي الأول به في بغداد، ولقائي الأخير به في الكويت.ولابد من الإشارة هنا إلى أن أهم محفزاتي على كتابة هذه الذكريات الشخصية، هو إلحاح وتشجيع بعض أصدقائي الأدباء، وعلى رأسهم الشاعر أمجد ناصر الذي ما فتئ ، كلما تذكرنا السياب يسألني: متى يحين وقت الكتابة؟ فكان دائماً يؤكد على ضرورة كتابة هذه الشهادة التاريخية ونشرها قبل فوات الأوان، نظراً لصلتها الأدبية والتاريخية بمرحلة شعرية مهمة في العراق، وبحياة السياب خاصة ولا سيما أيامه الأخيرة ورحيله بعيداً عن وطنه.

وللأمانة التاريخية لا بد أن أشير إلى أني لست من جيل السياب، مع أن صديقي الشاعر الكبير بلند الحيدري قربني إليه (بسخاء ومحبة) حين كتب في جريدة ‘المساء’ الجزائرية ‘عام 1984 قائلاً: (على مرمى ذراع من تجربة بدر شاكر السياب وزملائه في الحداثة الشعرية العربية، غب الأربعينيات من هذا القرن، ولدت قصيدة الشاعر العراقي ، فكان لها أن سعت سعي قصائدهم في تعزيز وتوطيد مصطلح شعري جديد، يخرج بجديدهم لغةً ومضموناً) .. والحقيقة أن تجربتي الشعرية أبعد زمناً من مرمى تلك الذراع، لأنني من جيل الستينات (برغم اعتراضي على استعمال هذا المصطلح) وإنها لم تكن إلا امتداداً طبيعياً لما تعلمناه من تلك المدرسة الشعرية الرائدة، التي مثلها السياب ونازك وبلند والبياتي ولميعة عباس عمارة . كانت الأقدار وظروف الشعر هي التي قادتني إلى التعرف على السياب لأول مرة في دار المعلمين العالية وأنا طالب بجامعة بغداد عام 1957، والأقدار نفسها هي التي ساقتني ثانية لكي أراه ولآخر مرة وأشهد أيامه الأخيرة وموته في الكويت، وأشاهده راقداً في المستشفى الأميري وهو مصاب بأمراض شتى حار بعلاجها الأطباء، وهو لا قِبل لجسمه النحيل الضعيف بتحملها. فقد وصل شبحاً وهيكلاً عظمياً لا يقوى على المشي ولا يتحرك إلا بمشقة، فأدخل المستشفى على الفور. ربما كنت الوحيد من الأدباء العراقيين- باستثناء الشاعر العراقي الكويتي محمد الفايزالذي شهد مأساة موته وأدرك عذابه ومحنته في غربته..

كان ذلك في أواخر عام 1957 حين دعونا السياب، أنا وزملائي في اللجنة الثقافية بدار المعلمين العالية، لإقامة أمسية شعرية، ونشرنا إعلاناً في الصحف العراقية عنها، لتكون دعوة عامة للجمهور. لبى السياب الدعوة بكل ترحاب، وقال إنها فرصة له لتذكر أيامه في الكلية. جاء بصحبته الشاعر محمود الريفي وصديقه الشاعر راضي مهدي السعيد، صاحب ديوان ‘رياح الدروب’ الذي كان صادراً لتوه بمقدمة لبدر شاكر السياب. إستقبلناه بباب الكلية مرحبين أنا وأعضاء اللجنة الثقافية وفي مقدمتهم حميد الهيتي (المذيع الذي صار بعد ذلك عميداً لكلية الآداب بالجامعة المستنصرية) إضافة الى عدد من المعجبين من الطلبة والطالبات.

كان فرحاً بهذا الاستقبال، وبدا عليه شيء من الخجل والارتباك، ربما لأنه لم يكن يتوقع هذه الحفاوة من الطلبة ومحبي الشعر من الجيل الجديد. وحين قدمني له صديقي الشاعر راضي مهدي السعيد، ذاكراً إسمي، قال السياب: ‘أنا أعرفك’ فدهشت وقلت له: ‘كيف تعرفني يا أستاذ بدر’؟ قال:’أعرفك من خلال الريبورتاج الذي نشرته في الأسبوع الماضي جريدة ‘البلاد’عن شعراء دار المعلمين العالية.

ثم أثنى على القصائد المختارة. تذكرت ساعتها ذلك التحقيق الأدبي الذي أعده الكاتب والصحافي أحمد فياض المفرجي لجريدة ‘البلاد’ التي كان يصدرها (رفائيل بطي)عن الشعراء الشباب في ‘العالية’ مع صور ونماذج من القصائد.ثم سألني: هل كنت تنشر في جريدة البلاد؟ قلت: نعم، بعض القصائد أرسلتها من ‘الناصرية’وأنا في الثانوية. قال: أتذكرك أيضاً من تلك القصائد. فأيقنت أن السياب كان متابعاً لما يدور في الصحافة الأدبية، لا يفوته شيء من أخبارها وما تنشره من شعر وأدب، وخاصة ما يتعلق منها بالنشاط الثقافي في دار المعلمين العالية آنذاك، فهي مكان ذكرياته وبداية تفتحه الأدبي.

ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اعتلى السياب فيها المنصة، مرتدياً بدلة رمادية فضفاضة، لم تكن مناسبة أبداً لجسمه النحيل، أخرج مجموعة أوراق من جيبه الأيمن الكبير، بدأ يرتب صفحاتها. وبدلاً من أن يضعها فوق الطاولة الخشبية أمامه ويقرأ بارتياح، فضل أن يمسك الأوراق بيديه تاركاً الطاولة، متقدماً قليلاً على خشبة المسرح وبدأ يقرأ وهو واقف، رغم الألم الذي كان يتعب ركبتيه، والذي تطور لاحقاً بسبب إصابته بالسكري.

ألقى السياب مجموعة من قصائده، وعلى رأسها قصيدته المشهورة عن بورسعيد، وهي آخر قصائده الطويلة التي كتبها عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر :
من أيما رئةٍ، من أي قيثار
تنهل أشعاري
وكان من بين أبياتها بيت فيه مديح لجمال عبدالناصر:
‘يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبدالناصر القدرُ ‘

حيث كان عبدالناصر يومها في أوج مجده وشهرته، بطلاً للقومية العربية وسط احتدام الشعور الوطني في العالم العربي، ونهوض الحركات التحررية ضد

الإستعمار وخاصة في العراق، أيام حلف بغداد، ونوري السعيد، وتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمت كافة الأحزاب الوطنية العراقية.. لاحظت أن السياب كان يتحرك حول المنصة ويمشي بصعوبة ويغالب ألماً في رجليه، ولكنه كان متماسكاً وواثقاً غير متهيب من الجمهور، يقرأ قصائده بانفعال صادق في قاعة مكتظة بالحاضرين والمدعوين ومحبي الشعر.

كان صوته واهناً ولكنه عميق تحس فيه حرارة المشاعر النابعة من صميم الوجدان، إستمر يقرأ بطريقة مسرحية، ربما بدت غريبة وغير مألوفة للحاضرين الذين لم يعتادوا على رؤية شاعر يتمايل يميناً وشمالاً .. يروح ويجيء وسط خشبة المسرح، يمشي ويؤشر بيديه الممدودتين، رافعاً رأسه يديره من جهة الى أخرى، كان يبدو كما لو كان هو وشعره فقط، ناسياً الجمهور أو كأنه خارج المكان والزمان. لاحظت بعض الطلبة يتهامسون مستغربين،ولكنهم كانوا يحسون بأنهم يسمعون شعراً عظيماً وأن داخل هذا الكيان الناحل الذي أمامهم لا بد أن تكون موهبة شعرية كبيرة.

ذكرني منظر السياب هذا، بمنظر الشاعر الروسي المشاكس الشهير «يوجين يفتشينكو» وهو يلقي قصائده بجامعة الجزائر عام 1981، حين جاء بدعوة من اتحاد الكتاب الجزائريين، سألته يومها: ‘لماذا تستخدم هذه الطريقة التمثيلية الغريبة في الإلقاء؟’ لماذا لا تقرأ بهدوء، فالشعر هدوء الروح ومناجاة الوجدان؟’
فأجاب: "نحن الروس لا نلقي الشعر، بل نمثله مثل شعراء الإغريق القدامى، فالشعر مسرح تراجيدي، هكذا علمنا مايكوفسكي الذي كان لا يمثل فقط حين يقرأ قصائده بل يكاد يرقص على المسرح، وأنا أرقص كذلك أحياناً حين أقرأ أشعاري. قاعتكم هذه صغيرة فأنا أعتدت قراءة أشعاري في الميادين العامة، وملاعب الرياضة حيث تتسع لمئات الألوف من العمال والطلبة لسماع قصائدي. وكنت أُمثّل شعري أمامهم وأنزل أحياناً من المنصة وأمشي بينهم وأنا أنشد أشعاري".

وفعلاً كان يفتشينكو ينزل عدة مرات من المنصة ويمشي بين ممرات القاعة بين الطلبة المستمعين، وهو يلوح بيديه ويتمايل بجسمه ويترنم بصوت عال بقصائده التي يحفظها عن ظهر قلب.

حين انتهى السياب من القراءة، كان التعب بادياً عليه، يتصبب عرقاً وما زال منفعلاً، فقد بذل جهداً كبيراً كي يحتفظ بتوازنه، كنت مشفقاً عليه وهو يروح ويجيء
على المنصة، وكأنه شجرة آيلة للسقوط. ربما لم يكن الطلبة يستوعبون فهم تلك الصور الشعرية العميقة المتداخلة والكنايات المركبة في ثنايا القصائد الحرة الجديدة، لكونها غير مألوفة لديهم أو هي فوق ما يسعفهم إطلاعهم المحدود على ماهية الشعر وأجوائه الداخلية، ولكنهم دون شك يحسون أنهم استمعوا إلى شعر ليس كالشعر، وأن خلف هذا الجسم المتهالك روحاً عبقرية قل نظيرها. فقد برز بجسمه النحيل أشبه بقصبة ريفية تهزها ريح النخيل فتعزف أعذب الألحان.

كانت تلك الأمسية حدثاُ ثقافياً وتاريخياً نادراً، لم يتكرر طيلة حياة السياب، فقد حضرها جمهور غفير من أدباء ومثقفي بغداد، وجمع من الطلبة الذين حضروا من كليات أخرى إلى جانب قسم من أساتذة الكلية (لم تحضر نازك الملائكة التي كانت مدرسة معيدة لمادة النقد الأدبي المقارن والعروض في نفس الكلية، ولم تحضر الشاعرة عاتكة الخزرجي أستاذتي في قسم اللغة العربية).

في نهاية الأمسية تقدم عميد الكلية الدكتور محمد ناصر وسلم على السياب، وكذلك أساتذتي: الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور الشاعر عبد الرزاق محيي الدين، والدكتور صفاء خلوصي. إضافة إلى بعض المدعوين. كان السياب يصافح الجميع ويسلم عليهم بأدب جم وبشيء من الخجل الظاهر، وهما الصفتان اللتان تميزان شخصيته العامة وتربيته الريفية. حين خرجنا من القاعة، كان هناك جمع من الطلبة والطالبات ينتظرون السياب لتحيته والتعرف عليه. إزداد ارتباكه حين وجد نفسه محاطاً بهذا العدد الذي لم يكن يتوقعه من طلبة الكلية. السياب فيه خجل خاص من المرأة لا سيما حين تكون قريبة منه، ربما يحبها بعيدة، حيث يحسن مناجاتها ومخاطبتها، وتستهويه مكاشفاتها بعواطفه والتغزل بها، لكنها حين تكون قريبة منه تثير فيه الارتباك وقد تفقده أحياناً قدراته البلاغية الكامنة في التجاوب وحسن المخاطبة.

لاحظت فيه ذلك وهو يحاول بتواضع وحياء محاورة الطالبات اللواتي أقبلن عليه يسألنه عن الشعر الجديد، وبعضهن رومانسيات يسألنه بجرأة عن بعض قصائده الغزلية التي كانت شائعة بين الطلبة آنذاك، مثل قصيدته المعروفة التي مطلعها :

ديوان شعري كله غزلُ بين العذارى بات ينتقلُ

أدركت أن السياب بدأ يتعب والإعياء باد عليه بعد جهد الأمسية والأسئلة الكثيرة التي إنهالت عليه من الطلبة، فالتفت وحاولت تدارك الموقف قائلاً: ‘أرجوكم .. الأستاذ بدر متعب ولا بد أن يرتاح ويحتاج إلى فنجان قهوة ويرتاح قليلاً في النادي’ إرتاح للفكرة، وقال خذوني للنادي، فاصطحبناه أنا وحميد الهيتي ومحمود الريفي إلى نادي الكلية الذي كان يقع خارج المبنى، في الجهة اليسرى وراء السد الترابي الذي يخترقه خط سكة حديد قطار البصرة ـ بغداد. في هذا المكان كادت أن تقع حادثة خطيرة تودي بحياة السياب وحياتنا معه. لن أنسى تلك اللحظات المروعة التي حدثت كلمح البصر، بل ستظل تلازمني ما حييت. فحين تركنا الطلبة وأخذنا السياب معنا متجهين نحو النادي، مشينا وهو في وسطنا، كان على يميني وكنت ممسكاً بيده اليسرى، وكان هو على يسار كل من حميد الهيتي ومحمود الريفي،

كان يمشي ببطء وكنا نسنده، حيث كان يعاني من ألم في رجليه. كنا مستغرقين في الحديث عن الأمسية، وهو مستغرق بشيء من الانشراح عن ذكرياته في الكلية.

بدأنا نمشي صعداً متسلقين درجات السد الترابي، هادئين مبتسمين مقتربين من السكة الحديد، وإذا بالقطار يندفع نحونا بلحظة جنونية خاطفة. كان على مسافة أمتار قليلة، لا ندري من أين جاء، كأنه بسرعة أسطورية خرج لنا من باطن الأرض دون أن ننتبه لصوت عجلاته أو صافرة إنذاره التي ربما أطلقها دون أن ننتبه لها حين يمر عادة. كان هذا القطار يمر مرة واحدة كل مساء في هذا الوقت قادماً من البصرة متجهاً إلى وسط بغداد، ودون وعي مني بلحظة غريزية، كمن يواجه الموت جذبت السياب بقوة الى الخلف، سحبته بشدة من يده النحيلة التي ما زال يمسك بها يدي، تدحرجنا الى الوراء وتدحرج أيضاً صاحباي: الريفي والهيتي وسقطنا متكومين تحت تراب السد. بعد لحظات التفت إلى السياب بعد أن عبر القطار فوجدته ممتقع الوجه، مصفر الملامح، والتراب يعفر وجهه، قلت له بقلق: أستاذ بدر هل أنت بخير؟ تمتم بصعوبة وهو يحدق في وجهي بذهول: ‘الحمد لله .. لقد أنقذت حياتي. شكراً لك، قلت له: ‘الله أنقذنا جميعاً .. ما حدث شيء لا يصدق، أقبل صاحباي على السياب ليطمئنا عليه، وصرنا نتساءل بذهول كيف حدث هذا؟ بعدها. سرنا الى النادي ونحن نسند السياب الذي كان يمشي بيننا بألم ظاهر، عبرنا السد الترابي مرة أخرى ودخلنا النادي. إخترنا طاولة في الزاوية اليسرى في نهاية النادي، جلسنا متحلقين ومنهكين، جلس السياب قبالتي، بدأ يهدأ ويلتقط أنفاسه، لاحظت بعض الغبار فوق شعره وسترته حين سقط على الأرض، مددت يدي لأنفضه،لكنه رد بمزاح: ‘لا عليك .. فهذا، كما قال الشاعر: غبار المعارك ‘وضحكنا. أدركت حب المرح وربما خفة الدم في شخصية السياب، فقلت له مداعباً: ‘الحمد لله إن معركتك مع الأمسية انتهت بنجاح’ فرد مبتسماً: إن معاركي لا تنتهي.. معاركي القادمة ستكون هي الأصعب ..’ لم أسأله عن معاركه القادمة لكنني فكرت في سري: تراه يقصد معاركه مع الحزب الشيوعي الذي بدأت خلافاته معه، وأدت به في ذلك الوقت إلى تغيير انتمائه السياسي ووقوف اليساريين ضده والذين لم يحضروا الأمسية؟

سألته ماذا يحب أن يشرب .. فقال : شاي بالحليب بدون سكر، قلت له: هل أطلب لك قطعة من (الكيك)؟ فقال: أنا ممنوع من أكل الحلويات بسبب السكري، فقلت له: كيف وضعك معه؟ قال: هو في بدايته كما يقول الطبيب وأنا أواصل العلاج وملتزم بنصائحه ‘ ذهبت لأجلب له الشاي بالحليب والقهوة لي ولصاحبي اللذين تركتهما يتحاوران معه حول ذكرياته في ‘العالية.

عندما عدت وجدته محاطاً بطلبة من قسم اللغة العربية من محبي الأدب،جاءوا يسألونه عن الشعر فكان ينصحهم قائلاً:’ عليكم بالتراث، ولا تنسوا الآداب الأجنبية (كان السياب خريج قسم اللغة الإنجليزية في العالية) انتهزت فرصة حديثه مع الطلبة وبدأت أتأمل ملامحه وهو يشرب الشاي ويتحدث، أتفرس في تفاصيل وجهه الطفولي الشاحب، وعينيه الغائرتين المتعبتين، بدا لي مهذباً متواضعاً، لا يشعر جليسه بحرج معه، ودوداً وعلى جانب شديد من الحياء الذي يزيده وقاراً، يتحدث وهو مطرق في الغالب، يكثر من استعمال يديه حين يهم بشرح فكرة ما،وقد أثار إنتباهي طول أصابعه المفرط، وهي تمسك بكوب الشاي، فقد بدت معروقة وبادية الزرقة بشكل ملحوظ وقلت مع نفسي : أهذه هي الأصابع التي تكتب كل تلك القصائد المدهشة؟ وهومن جانب آخر عاطفي مع أفكاره يتحمس ذاتياً للدفاع عن خواطره، حين يحدثك ينظر إليك ويبتسم في وجهك، فتحس نحوه بالإلفة وتجده قريباً من نفسك.

حين تسأله لا يجيبك بسرعة، يفكر ملياً بما سيقول، وهذا جزء من الحذر والترقب في شخصيته، وربما إنعكس هذا على أسلوبه المتأني في كتابة القصيدة التي يقلبها ملياً ويتفحصها مراراً قبل أن يدفع بها الى النشر. حين تنظر الى السياب وهو هادئ النفس، متطامن المشاعر، مطرق، تحس أنك امام إنسان (خيرّ) بكل ما تحمل الكلمة من معان، تماماً مثلما كان يردد قول الشاعر ‘كن خيراً لا كاتباً وحسيبا’، فتعطف عليه وتتعاطف معه فهو عميق البراءة، لا يمكن أن يؤذي أحداً أو يقترف شراً، وقد كشفت الأحداث في السنوات اللاحقة أن هذه البراءة عند السياب، وربما الغفلة (غفلة المؤمن) كما يقال هي التي جعلت منه ضحية سهلة لأصحاب السوء والنوايا الخبيثة من زملائه الشعراء الذين يحسدونه ويكيدون له ويغارون من موهبته الكبيرة، فهو لم يعرف كيف يداور أو يتحايل أو يتزلف، ولم يعرف حتى كيف يكشف عن قدراته الشعرية الهائلة، أو يسوق قصائده بحثاً عن الأضواء والشهرة كما يفعل الآخرون. بادر السياب بسؤالنا عن الأمسية فهو بطبيعته شديد الحساسية إزاء شعره ورأي الآخرين فيه، وهو أيضاً كثير التوجس والخوف من وجود هؤلاء الآخرين، ويخشى النقد ولا يحتمل المجابهات لأنه إنسان مسالم، ولكنه قد يثور ويفقد صوابه حين يحس بالغبن أو ينتقص أحد من قيمته أو يستهين بقدراته، خطر لي أن أسأله عن البيت الذي ورد في قصيدته عن بورسعيد ومدح فيه جمال عبد الناصر:
«يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبد الناصر القدرُ»

قلت له: أستاذ بدر .. أنت حورت هذا البيت ووضعت إسم عبد الناصر بدل (سيف الدولة) الذي كان موجوداً أصلاً في القصيدة المنشورة التي قرأناها سابقاً،
حيث كان سياقه: ‘لا تيأسي إن سيف الدولة القدرُ’ .. فقال: هذا صحيح، أنا تعمدت إدخال هذا التضمين كي يتمشى مع السياق. قلت له: لماذا؟

قال: ‘أنا تجاوبت مع مشاعر المستمعين وعواطفهم الوطنية والقومية في هذه الظروف وكما تلاحظ أن الظرف السياسي الحالي يكاد يكون مشابهاً لظروف سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري كلاهما كان بطلاً قومياً يحارب أعداء الأمة العربية.

- أوافقك على ذلك، ولكن ملاحظتي كانت بخصوص أمانة النص الأدبي..

- أنا أفهم ما تعنيه، ولكن على الشاعر أيضاً أن يكون أميناً على مصالح أمته، ولا يضيع أية فرصة لاستنهاض هممها القومية. والشاعر عليه مسؤولية تجاه مصير شعبه، وهذا لا يضير النص الأدبي، لا تظن هذا تزييفاً أو تلوناً، هذا جزء من التزام الأديب الذي هو في النهاية حر في نصه وأفكاره. هذه هي فلسفتي في الأدب والالتزام..
لم أجادله بهذا الشأن حيث أخذ يتحدث عن فلسفة الالتزام في الأدب، ونظرية الفن للفن، والشعر في خدمة الجماهير.. الخ
وهي الآراء التي قرأناها بعد ذلك في محاضرته التي القاها عام 1961 في روما حين ذهب للمشاركة في مؤتمر حول الأدب العربي المعاصر.

بعض النقاد والجهات الأدبية انتقدت السياب حينها وأتهمته بالتناقض، والتذبذب في محاضرته عن ‘الإلتزام واللاإلتزام في الأدب العربي’ التي القاها في مؤتمر روما، والتي ذكر فيها أن تأثره هو وجيله من الشعراء العرب بالشاعر ت.س.اليوت، كان موضوعياً وفنياً، مخالفاً فيه رأيه المتداول والمعروف في المقابلات الأدبية، في أن تأثره كان فقط من ناحية الأسلوب، وخاصة في قصيدتيه ‘الأرض الخراب’ و’أغنية العاشق بروفروك’ الى آخر هذه الآراء المعروفة التي دُرست بإسهاب في كتاب ‘الأسطورة في شعر بدر شاكر السياب’ للناقد الدكتور عبد الرضا علي .. غير أن السياب دافع عن رأيه في ذلك الوقت، ولم يعبأ كثيراً بتلك الإنتقادات التي إعتبرها مغرضة وغير موضوعية، وعبر بوضوح عن موقفه إزاء إلتزام الشاعر بقضايا المجتمع ونظرته الفلسفية نحو موقف الإنسان في الفن والوجود ..

كان السياب مرتاحاً لجلسته معنا في النادي، فقد طلب كوباً آخر من الحليب الساخن، قال إن ذلك يهدئ آلام القرحة التي تنتابه من حين لآخر.

إلتفت إليّ يسألني: (هل قرأت المقالة أمس في مجلة ‘الفنون’ ؟
- نعم .. قرأتها.
- كيف وجدتها؟
- وجدت فيها تهجماً على بعض الشعراء من زملائك.

- أنا لم أتهجم. هم الذين تهجموا عليّ، وحاولوا الإساءة الى سمعتي لأنني اختلفت معهم في الرأي، أنا طرحت آرائي حول الواقعية والالتزام في الأدب،وضربت بعض الأمثلة، كما أنني حر في اختياراتي السياسية.

- لك الحق في ذلك طبعاً، ولكنك قلت عن عبدالوهاب البياتي: (إنه عالة عليّ وعلى إليوت)
- ‘ نعم أنا قلت ما أعتقد من الحقائق، إنهم يأخذون مني وينسبونه الى ‘إليوت’.

أنا أقرأ ‘إليوت’ بلغته الأصلية، وهم يقرأونه مترجماً، وفي النهاية يلتبس عليهم الأمر، ويصبحون عالة على كلينا، أغلبهم حساد، بلا مواهب’
لاحظت لأول مرة نبرة غضب في لهجته نظراً لحساسية الموضوع.

(كانت مجلة ‘الفنون’ البغدادية الأسبوعية قد نشرت في ذلك الوقت مقابلة مع السياب، تحدث فيها عن موضوعات شتى حول الأدب والشعر العراقي الحديث، وعلاقته بالشعراء العراقيين). أدركت تسرعي في إثارة هذه الموضوعات الحساسة حول خصوماته مع الآخرين التي تزعجه وتثير انفعاله فآثرت تغييرمجرى الحديث.

في هذه الفترة كان السياب إختلف مع الحزب الشيوعي، وانسحب منه بعد أن تعرض لحملة معادية من الأدباء اليساريين، في الصحافة العراقية بسبب تغييره لانتمائه السياسي، مع أنه كان مفصولاً من وظيفته في موانئ البصرة ومحارباً في رزقه.فليس غريباً إذاً وسط هذا الإحباط والوضع النفسي المتأزم الذي كان يعيشه، أن تخلق تلك المواقف العدائية مبرراً كافياً لديه، كي يصب جام غضبه على منافسيه، ويهاجمهم بلا هوادة في تلك المقابلة، ولا غرابة أيضاً أن تنفجر كل تلك الملابسات لاحقاً، في بيت الجواهري، بعد ثورة تموز 1958 لدى انتخاب الهيئة الإدارية لأول اتحاد أدباء في العراق.

كانت الأجواء في ذلك الاجتماع مهيأة للانفجار، إذ كانت القوى اليسارية تخطط بوضوح لتهميش السياب وإزدرائه وإبعاده عن الهيئة الإدارية للإتحاد، وقد نجحت في ذلك، وأصيب السياب بأزمة نفسية قاتلة، دفعته لاحقاً إلى كتابة تلك السلسلة من مقالاته الغاضبة والمعروفة التي نشرها تحت عنوان :

كنت شيوعياً’ والتي أثارت جدلاً واسعاً في حينه، وقد تأكدت هذه الحملة ضد السياب، بشهادتين مهمتين من الناحية التاريخية والتوثيقية، لاثنين من الشعراء الرواد هما:

لميعة عباس عمارة، وبلند الحيدري، آثرت إدراجهما كاملتين هنا نظراً لأهميتهما تاريخياًوأدبياً في تسجيل أحداث تلك المرحلة السياسية العصيبة من تاريخ العراق.

 

*شاعر من العراق يقيم في لندن

المصدر: الموقد