من يستأثر بحب أمريكا.. "داعش" أم "النصرة"؟

يلفت انتباه أي متابع لمجرى الأحداث في سورية والعراق، سواء على الصعيد الميداني أو السياسي، طريقة تعامل أمريكا مع تنظيمي "النصرة" و"داعش".. وهي في أقل توصيف معاملة "تمييزية" حيث تقبل أمريكا على ضرب داعش، وإن كانت جديتها في ذلك تتصاعد تدريجياً لأسباب سنعيد التذكير بها في السياق، بالمقابل فإنها لا تضرب النصرة، بل وتسعى سعياً محموماً لتأجيل ضرب الروس لها قدر الإمكان.

في الجانب السياسي يمكن أن نلاحظ أيضاً أن الخطاب الرسمي والإعلامي الأمريكي يركز، في تناوله للإرهاب، على داعش وحدها، حتى لتكاد النصرة تغيب عن المشهد كلياً.. فما الذي يختفي وراء هذه الازدواجية؟

تجنباً لسوء الفهم، وقبل أن نعدد الظروف والأسباب التي تكمن في خلفية الازدواجية المشار إليها، ينبغي القول بأن "أمريكا" التي نقصدها ليست إدارة أوباما أو غيره، بل هي أية إدارة أمريكية بصفتها المحصلة السياسية الإجمالية لمواقف ومصالح قوى وتيارات عديدة تمثل رؤوس أموال احتكارية كبرى، بأنواعها وبفروع عملها المختلفة، من الاقتصاد الإنتاجي الصناعي، وضمناً العسكري إلى المالي- الإجرامي (مخدرات واتجار بالبشر.. إلخ).

هذا التحديد يسمح بالتخلص من مختلف الأوهام و"الصرعات" السياسية التي تتصدر المنابر الإعلامية عند كل انتخابات رئاسية أمريكية جديدة. ما يهمنا أكثر في الموضوع الذي نناقشه هو أن هذا التحديد يسمح أيضاً بتفسير المقولتين الصحيحتين ولكن المتناقضتين في الوقت نفسه: أمريكا تصنع الإرهاب..! وأمريكا تحارب الإرهاب..! إنّ أمريكا كمحصلة هي فعلاً من تصنع الإرهاب، وهي فعلاً من تقبل اليوم على محاربته مضطرة، وفي التفاصيل أن التيار الفاشي الجديد ضمن أمريكا هو المسؤول المباشر عن تصنيع الإرهاب ورعايته، وهو التيار الممثل لرأس المال المالي الإجرامي العالمي، والذي يرفض أي تراجع عن "سلطة الدولار العالمية" التي تمثل القاعدة الاستثمارية الأساسية لرأس المال هذا. بمقابل ذلك فإن التيار "العقلاني" داخل الولايات المتحدة يسعى إلى التكيف مع تراجع سلطة الدولار (المقصود ليس الدولار كعملة فقط، بل الدولار بكل ما يعنيه من منظومة مالية- اقتصادية وسياسية عالمية)، والذي (أي العقلاني) لا تزال لديه إمكانات البقاء، وإن في وضع أسوء بكثير من وضع سيادة الدولار. وضمن عملية تراجعه هذه، يحاول "العقلاني" الاستفادة من الفاشي إلى الحد الأقصى في تأخير اندفاعة الخصوم الاستراتيجيين، وبالتالي في تأخير تراجعه هو بحد ذاته، ولكنه يسعى أيضاً إلى ضبط عمل التيار الفاشي ضمن حدود مرسومة يمكن أن يؤدي تجاوزها إلى دفع المركب الأمريكي بأسره إلى عمق الدوامة. فالفاشي لا يجد ضيراً في الاستمرار في إشعال الحروب وفي زيادة حدتها، بل ولا يجد ضيراً في دفعها إلى تخوم حرب عالمية مباشرة تحمل في طياتها خطر فناء البشرية ككل! (عند هذا الحد، وأمام خطر بهذا الحجم، يظهر الجزء الأساسي من تفسير ما جرى في نهايات الحرب العالمية الثانية من اتفاق بين "الشرق" والغرب" في مواجهة النازية، وكذلك ما بدأ يظهر الآن من تحضيرات من توافقات دولية تشمل الغرب في مواجهة داعش وأشباهها)..

عود على بدء، فإن الأسباب الخافية وراء سلوك "أمريكا" المزدوج والمتمايز تجاه كل من داعش والنصرة هي التالية:     

أولاً: تمثل داعش ذلك الجزء من أدوات التيار الفاشي العالمي التي تجاوزت إطار وحدود الضبط التي يراها التيار "العقلاني"، إذ إن الامتداد الجغرافي الكبير الذي فرضته داعش خلال فترة قصيرة، وطريقة عملها، في ظل الدعم والسكوت والتراخي الأمريكي في مواجهتها، وضعتها بسرعة كبيرة بموقع يسمح لها، إن تركت لشأنها، بالتحول إلى أحد أمرين: إما صاعق حرب إقليمية ومن ثم عالمية جديدة، وهو ما سبق وقلنا أن "العقلاني" يرفضه، وإما التحول إلى منصة تسمح لتجمع بريكس، ولروسيا خاصة، وعبر الدوس عليها وإنهائها (وهو ما لا يستطيع أحد الطعن بشرعية حدوثه إن جرى)، إلى اعتلاء دفة المركب الأرضي بأسره كقوة سلام أساسية. وهذا من شأنه لا ضرب الفاشية فقط، بل وتسريع انحدار "العقلاني" معه. في الحالتين كلتيهما فإنّ داعش بدأت تشكل خطراً شاملاً بما فيه على أمريكا ذاتها، ولذا بات ضربها واجباً، في حين لم تصل النصرة هذا الحد.

ثانياً: إنّ دخول الروس الجدي على خط محاربة الإرهاب، والإنجاز الكبير الذي يحققوه في هذا الإطار بما في ذلك تحرير تدمر مثلاً وضرب موارد إمداد داعش، جعل من تسريع ضرب أمريكا لداعش مسألة شديدة الضرورة من وجهة نظر مصالحهم، وللسبب الذي أشرنا إليه سابقاً.

ثالثاً: إن تموضع النصرة الجغرافي العام، المتداخل مع فصائل أخرى بينها من التزم بوقف الأعمال العدائية وبينها من لم يلتزم، بينها من يقول بحل سياسي وبينها من يرفض، وبينها من يغير رأيه تبعاً للظروف والضغوط سواء على مستوى قياداته أو على مستوى عناصره، إنّ هذا التموضع يسمح لأمريكا بهامش تلاعب تسعى لاستنفاده حتى النهاية، فالهامش إياه يمكن استثماره في تأخير الحل السياسي في سورية، وفي تأخير عملية ضرب الفاشية على المستوى العالمي، باعتبار سورية واحدة من ساحات فعلها الأساسية اليوم، وتالياً في تأخير اندفاعة الخصوم.

رابعاً: إنّ تموضع النصرة الجغرافي-السياسي، وخاصة في محافظة حلب، وعلى الحدود التركية التي منها يجري تمويل وتسليح الجميع، وبين فصائل تدعمها تركيا وأخرى تدعمها السعودية، يؤدي إلى نتيجة واضحة هي أن ضرب النصرة، التي تشكل الثقل الأكثر نوعية بين مختلف الجماعات الموجودة في تلك الجغرافيا، يعني بالضرورة، سواء كنتيجة أو كمقدمة، إغلاق الحدود التركية بما يعنيه ذلك من قطع كبير ليد الأتراك عن الشأن السوري، وكذلك الأمر إلى حد بعيد مع السعوديين، كما يعني تسريع عملية فرز المسلحين بين مناصر ومعاد للحل السياسي ولوقف الأعمال العدائية، وهو الأمر الذي من شأنه إن حدث أن يفتح الاحتمال على دربين متعاكسين تماماً وخطرين على أمريكا، الأول هو ردة الفعل الفاشية الموحدة باتجاه إشعال حرب إقليمية سيضطر العقلاني، إن بقي محتفظاً بشيء من "عقله" أن يقف فيها في صف الروسي! أو أن يستبق ردة الفعل تلك (هذا إن كانت لديه القدرة) بفرض تغييرات كبرى في تركيا والسعودية تمنع نشوب حرب كهذه، توازياً مع تنفيذ فوري للحل السياسي في سورية، ما يعني كمحصلة تظهيراً مباشراً وحاداً للتوازن الدولي الجديد، وهو ما تهرب منه أمريكا بعقلانييها وفاشييها.

 بناء على ما تقدم، فإنّ أمريكا، وإن كانت لا تحب، لا داعش ولا النصرة، ولكن عدم حبّها لداعش بدأ يتحول إلى واقع ملموس عبر توجيه الضربات إليها، أما النصرة فهي الأخرى لن يطول بها المقام حتى تتلقى الضربات من الجميع، ذلك أن الروس لن يتركوا لأمريكا أداة كهذه في المنطقة، وإن كانوا يمهلونها الآن فلأن التركيز على داعش من شأنه ضمن آجال قصيرة أن يدفع النصرة أيضاً، إلى مقصلة التاريخ..