أكثر من هواوي وأكبر من حرب تجارية

أكثر من هواوي وأكبر من حرب تجارية

تتبنى الصين في صعودها الاقتصادي الجاري، وفي إدارة موقعها الدولي بين الدول الكبرى على قاعدة بسيطة: المنافسة وتحقيق التقدم في عالم الغد وتكنولوجياته، وليس العراك على الصدارة ضمن الأطر السائدة اليوم. المعركة الجارية حول شركة هواوي هي تجلٍّ لإتيان هذه الإستراتيجية لثمارها في واحدة من المجالات التكنولوجية الرائدة، وهي تعبير عن محاولة يائسة، وذات نتائج عكسية، لقوى العالم القديم على إيقاف هذا المسار.

على سطح الحدث، تقوم الولايات المتحدة بفرض عقوبات على شركة هواوي لأسباب تتعلق بمخاوف أمنية. في العمق تطال العقوبات الشركة الأولى عالمياً من حيث الحصة السوقية في مجال معدات الاتصالات. المجال الذي تعمل فيه شركة هواوي، تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، هو واحد من مجالات التقنيات عالية التقدم من ناحية، ويقع في قلب التحول التكنولوجي التاريخي الذي تعيشه البشرية مع ما يسمى بالثورة الرقمية.

الجيل الخامس والاقتصاد الرقمي

بالملموس، تعد هواوي الشركة الأكثر تقدماً في مسار إطلاق تقنيات الجيل الخامس للاتصال اللاسلكي على الشبكة العنكبوتية، الأمر الذي سيعطي الشركة والصين معها أفضلية في تطوير التطبيقات الجديدة المعتمدة في خدماتها على سرعة الإنترنت الفائقة لمعدات الجيل الخامس. فمثلاً: سمح الجيل الثالث باستخدام تطبيقات تحديد الموقع عبر الأقمار الاصطناعية (GPS)، أما الجيل الرابع فسمح بتطبيقات تتضمن محتوىً مرئياً عالي الدقة.
من خصائص الاقتصاد الرقمي والتطبيقات والمنصات الإلكترونية هو ما يسمى بتأثير الشبكة «Network effect»، حيث إن التطبيقات التي تدخل السوق أولاً تتزايد حصتها السوقية بشكل أساسي، مما يجعل من الصعب على شركات أخرى منافسة دخول هذا السوق، وهو ما يمكن تلمسه مع تطبيقات، مثل: فيسبوك، واتس أب وإلخ.
لهذه المسألة آثارها المتعددة على الاقتصاد الأمريكي... فرغم التراجع الكبير في الوزن الاقتصادي الأمريكي، إلا أنه حافظ على مركز الصدارة فيما يخص مختلف عناصر الاقتصاد الرقمي: من تصميم المعالجات، الذكاء الصناعي، التطبيقات الخدمية، أو وسائط التواصل الاجتماعي. إن تحقيق الصين تقدماً على أمريكا في هذا المجال يعني: فقدانها لأهم المعاقل الأخيرة التي تحافظ فيها على وزن ما.
بالإضافة إلى ذلك، إن التقدم الصيني في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يمكن أن يهدد الموقع العسكري للولايات المتحدة، إذ تعتبر هذه التكنولوجية عماد النمط العسكري الحديث القائم على ما يسمى الحروب السيبرانية، أو حروب فضاء الإنترنت والشبكات، التي لا تقوم على المواجهة المباشرة بين الجيوش، وإنما تعمل على تعطيل البنى التحتية وشل قدرات العدو. عدا عن ذلك فإن التكنولوجيا العسكرية التقليدية، مثل: القوة الصاروخية أصبحت تعتمد على التسيير عبر الأقمار الاصطناعية ضمن منظومة تحتل فيها معدات الاتصالات موقعاً مركزياً.

الصين من مستخدم لمصمم فمصدّر للمعايير

في العمق أيضاً، يمثل تصدّر الصين إنتاج تكنولوجيا الاتصالات نقلة نوعية، فهو يعني تحولها من مستخدم سلبي للمعايير التقنية التي يجري عبرها تصنيع وتشغيل الشبكات (في حالة الشبكات اللاسلكية) والتي كانت تقوم بها الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية بشكل أساس، لتنتقل الصين إلى موقع مصمم ومصدّر للمعايير التقنية التي ستتبناها الشركات والدول الأخرى. إنّ من يضع ويحدد المعايير التقنية للإنتاج، هو بمثابة من يحدد قواعد اللعبة التي سيلعب الآخرون على أساسها، ومن يحقق سبقاً على هذا الصعيد يضمن مكاناً مركزياً وقيادياً في المجال التكنولوجي المعني. 

يُذكر، أن الصين عملت بشكل ممنهج لرفع مستويات تمثيلها وفاعليتها في المنظمات الدولية الواضعة للمعايير التقنية، التي كانت حكراً على الدول الصناعية التقليدية، وتحوّلت لصانع ومصدّر معايير في قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. كما أن مبادرة الحزام والطريق الصينية المعروفة بأنها مشروع «وصل» قاري، تتضمن جانب الوصل الرقمي، والذي تعمل عبره الشركات الصينية على تدويل وتصدير المعايير التقنية التي تستخدمها.
إذاً، تهدف العقوبات الأمريكية لخنق تطور الشركة الصينية، أولاً: عبر إغلاق السوق الأمريكية والأوروبية عليها (وهو ما لم ينجح حتى الآن إذ يبدو أن الأوروبيين المتخلفين في تكنولوجيا الاتصالات سيعتمدون على هواوي عكس الرغبة الأمريكية). وثانياً: عبر منع الشركات العالمية المنتجة للمعالجات، الكاميرات إلخ من التعامل مع هواوي، الأمر الذي سيدفع الشركة الصينية باتجاه صناعة مكونات معدات الاتصالات بما فيها الهواتف الذكية «من الألف إلى الياء»، وهو أمر قيد التحقيق منذ ما قبل العقوبات، إذ كشفت شركة هواوي عن تقدمها بصناعة معالج لأجهزتها بالإضافة إلى كشفها عن نظام التشغيل البديل عن الأندرويد والمسمى بـ هونغ مينغ.

الصورة الأكبر: تكنولوجيا العالم الجديد

تترافق التحولات النوعية التاريخية التي تطرأ على أشكال التنظيم الاجتماعي مع تحولات مرافقة على صعيد طابع التكنولوجيا المستخدمة في الإنتاج، فالمحراث كان أبرز التحولات التكنولوجية المرافقة لصعود المجتمع الإقطاعي، كما لعبت الآلة العاملة بالطاقة البخارية دوراً أساسياً في رفع مستوى الطاقة الإنتاجية وظهور الرأسمالية.
اليوم تعيش البشرية منعطفاً تاريخياً نوعياً نتيجة التحول التكنولوجي الجاري في الـ ٤٠ سنة الأخيرة، الأمر الذي يفتح الباب باتجاه تنظيم مختلف جذرياً للعلاقات الاجتماعية.
تقانة المعلومات والاتصالات تقع في المركز من الثورة الرقمية، والتي تُحدث تغييراً غير مسبوق على التقسيم الاجتماعي للعمل بطريقة مركبة. فمن ناحية، تؤدي إلى توسع العمل الذهني على حساب العمل العضلي إلى مستوى غير مسبوق تاريخياً، الأمر الذي سيكون له آثار عميقة على المنظومة الرأسمالية، نذكر منها اثنين:
إحلال الآلة محل العمل بشكل غير مسبوق في جميع القطاعات، بما فيه في قطاع الخدمات الذي يشغّل العدد الأكبر من اليد العاملة في الدول الصاعدة والصناعية، ما يعني انخفاض معدل الربح الذي يعتبر قاطرة الإنتاج، مع ما يرافقه ذلك من زيادة العاطلين عن العمل وارتفاع التوترات الاجتماعية الناتجة عن البطالة مرتفعة المعدلات في الاقتصاديات الصناعية مسبقاً.
إحلال الآلة محل العمل البشري يعني أيضاً نهاية العمل المأجور كمصدر الدخل الأساس الذي يسمح للجموع بالاستهلاك، وبالتالي، لعجلة الإنتاج بالدوران. وهو ما يفسر مطالبة بعض القوى الاشتراكية الديمقراطية في الدول الصناعية بتبني دخل حدٍّ أدنى يكتسبه المواطنون بغض النظر عن ساعات العمل التي يعملوها، بما يسمح باستمرار عجلة الإنتاج/الاستهلاك.
طبعاً هذه المسائل توضح طابع التحكم القائم بالثورة الرقمية من قبل السلطات الرأسمالية في الدول الصناعية، إذ تعمل على الحد من نشر التطبيقات التكنولوجية التي تسبب قلب طابع التنظيم الاجتماعي القائم والقوى المستفيدة منه.
من ناحية أخرى، بنية وطبيعة الثورة الرقمية تتميز بكونها لا تقوم فقط بدفع التقسيم الاجتماعي للعمل، ورفع مستوى التخصص كما جرى سابقاً، لا بل إنها تدفع باتجاه التربيط والتشبيك بين مختلف مجالات الإنتاج، وهو ما يتجلى بسيادة العمل الذهني الذي ستكون مهمته الأساسية حل مسائل التربيط والتشبيك، مع ما يتطلبه من إتقان تقني عابر للمجالات والاختصاصات.
إن من يحقق التقدم والسبق في مجال التكنولوجيا الصاعدة، سيكون في موقع أسبقية في تحديد طابع تنظيم العلاقات الاجتماعية، وفي موقع يؤهله من قلب النظام القديم الرأسمالي الذي غدا خانقاً ليس فقط للبشر وللتطور التكنولوجي بحد ذاته، بل للطبيعة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
915
آخر تعديل على الإثنين, 27 أيار 2019 13:28