سياسة الأجور السورية.. إعادة بناء التخلف

سياسة الأجور السورية.. إعادة بناء التخلف

يحق لأيٍّ كان أن يتساءل، كيف تدور الدورة في الاقتصاد السوري... من يستهلك ما يتم إنتاجه أو استيراده أو تهريبه؟! من يستهلك وأكثر من 80% من السوريين دخولهم أقل من القدرة على تأمين الغذاء الضروري، وأكثر من 4.7 مليون منهم يحتاجون مأوى؟!
عموم السوريين من أصحاب الأجر والعاطلين عن العمل، لا يستهلكون، إنهم يحصلون على الضروري للاستمرار بالوجود فقط.. بل ويستمرون بمستوى من الاستهلاك لا يسمح لهم بطول العمر، إذ يستهلكون من أعمارهم، حتى أن وسطي العمر انخفض أربع سنوات ونصف تقريباً.

بعيداً عن الأزمات الإنسانية الناجمة عمّا سبق، فإنه من المفترض أن يشكّل هذا الواقع «عقبة اقتصادية»! فهؤلاء الذين يشكلون نسبة تفوق الـ 80% من السوريين، يفترض أن يشكلوا جزءاً أساسياً من سوق الاستهلاك، ومصدر تحقيق الربح الكامن في البضائع والخدمات التي يقدمها قطاع الأعمال بأشكاله كافة. ولكن مع هذا فإنك تجد قطاع الأعمال السوري محتجاً على كل شيء: نقص الوقود، سوء الخدمات، التهريب، الضرائب، القوانين وإلخ... ولكن لا تجد أن مسألة نقص القدرة الشرائية لعموم السوريين تشكل مشكلة جدية بالنسبة لقطاع الأعمال السوري. رغم أن العالمين في السوق ودورتها يقولون: إن حركة السوق تتوقف قبل منتصف الشهر، وبالتحديد بين 11-12 الشهر.
لا أحدَ متضرراً من ضعف القدرة الشرائية للأجور، بل إن قطاع الأعمال السوري مستفيد منها، ومتكيف معها. إذ يمثل واقع الأجور سابقاً وحالياً جوهر السياسة الاقتصادية، سياسة أجر قائمة على أن سورية سوق عمل، وليست سوق استهلاك.

العمال السوريون رخيصو التكلفة

إذا قارنت في عام 2010 مستوى استهلاك الفرد السوري من اللحوم مثلاً، مع الأردني أو السعودي، فإن السوريين لم يؤمنوا استهلاكاً وسطياً للـ 75 غرام لحوم ضرورية يومياً، بينما يصل المعدل الوسطي في الإقليم إلى 89 غراماً يومياً. وكذلك باقي المنتجات الزراعية، إذ كان جزء كبير منها منتجات محلية للسوق الإقليمية، حيث يُصدّر الفائض، الذي قررت القدرة الشرائية للسوريين أنه فائض! لأن عموم السوريين الذين يحصلون على 25% فقط من الناتج السوري، لا يستطيعون الشراء بالمعدلات الوسطية، لأن سياسة الأجر كانت قائمة على أن العمال السوريين يحصلون على أجر قليل، ويستهلكون القليل. ولكنهم بأجرهم المنخفض يشكلون قاعدة أساسية للتكاليف المنخفضة، التي تتحول إلى أرباح في البضائع يصدرها قطاع الأعمال تهريباً أو بشكل نظامي للإقليم ولأوروبا.

قطاع أعمال تصديري متخلف

قطاع الأعمال السوري المنتج، قطاع تصديري، يجمع المنتجات الغذائية يعلّبها ويشحنها إلى الخليج. يصنّع صناعات تحويلية أولية، ويصدرها بطلبيّات للخارج. وهو يمثل بشكل أو آخر ورشة إقليمية تنتج ما يستهلكه الجوار الأوفر مالاً والأكثر استهلاكاً، والأقل إنتاجاً. أما ما تبقى من قطاع الأعمال السوري فهو تجاري واحتكاري لحد بعيد، يستورد ما يضمن استهلاكه، أو «متسلبط» على الخدمات العامة عالية الربح، أو ينهش من الموارد العامة فساداً، ويغسل أمواله بالعقارات والمنشآت والكماليات والسياحة التي يشتريها ويصرف عليها أصحاب الأموال من بعضهم البعض.
ولكن الأهم، أن قطاع الأعمال السوري، قائم على المجتمع الشاب العامل، رخيص التكلفة، ضعيف الحماية... وهو قطاع أولي بسيط لا يحتاج إلى مهارات وكفاءات، فيكفي العامل السوري أن يسكن ويأكل بالحدود الدنيا ليكون قادراً على المساهمة في العملية الإنتاجية المتخلفة في سورية. وحتى إن مات مبكراً فإن استبداله متاح، في سوق عمل وصلت مستويات البطالة فيها إلى 15% قبل الأزمة.
ما كان قائماً قبل الأزمة، استمر خلالها، بل أصبحت سياسة الأجر أشد قسوة على العاملين.. وأصبحوا لا يحصلون على 20% من الناتج القليل الذي ينتجونه في داخل سورية، بينما الـ 80% المتبقية تذهب ربحاً.

سياسة جذب المستثمرين إلى فقرنا لن تستمر!

رغم العقوبات والحصار وكل المؤشرات التي تقول بأن المجتمع السوري يحتاج إلى «انتشال إنساني»، فإن سياسة الأجر مستمرة... مع آمال واهمة بتحولها إلى نقطة جذب للمستثمرين، بل إن البعض يريدها عماداً لإعادة الإعمار. حيث إن إصرار السياسات والقائمين عليها على تثبيت الأجور عند هذا المستوى، يعني دعوة المستثمرين إلى سوق واعدة: مدمرة وتحتاج إلى إعادة بناء، وبمعدلات ربح ستساهم في رفعها الأجور الهامشية التي لا تشكل شيئاً من التكلفة، مع خزان من العاطلين عن العمل والمتعطشين له يقارب نصف القوى العاملة.
ينسى البعض أحياناً درجة ارتباط السياسة والاقتصاد، فحتى المستثمرون ورغم لهاثهم للربح، يعلمون أنهم مدعوون إلى سوق عمل، محتقنة، وإن لم تستقر، فإنها تنذر بالفوضى بل حتى بعودة الإرهاب.
سياسة الأجر هذه لا يمكن أن تستمر، لأن وجودها هو واحد من أساسات تأزم الوضع الاقتصادي- الاجتماعي وبالتالي السياسي في سورية. ولا يمكن لسياسة من هذا النوع أن تكون جزءاً من «إعادة الإعمار»، بل إن استمرارها يعني إعادة إنتاج الأزمة، فاقتصاد يعتمد على عيش الأغلبية في الفقر الحاد، وعملهم في ظل قطاع أعمال تصديري متخلف، لن ينتج سوى مزيدٍ من الفقر والتراجع والغضب.
كما أنّ عاملاً آخر ينساه القائمون على سياسة الأجر المذكورة، أن اللحظة التي تتراجع فيها الأزمة السورية، وتنفتح فيها التساؤلات حول نموذج إعادة الإعمار، هي لحظة أزمة اقتصادية دولية، وتتجلى بوضوح في الإطار الإقليمي لقطاع الأعمال السوري، المرتبط بسوق الخليج وأوروبا... حيث لا فوائض استثمارية متاحة كما كانت لحظة الإقلاع الليبرالي في سورية في مطلع الألفية.
إن تغييراً جذرياً في سياسة الأجور السورية، يجب أن يكون القاعدة الأولى في عملية إعادة الإعمار، لتكون إعادة إعمار فعلاً. وهذا التغيير باتجاه زيادة حصة الأجور من الناتج، وزيادة قدرة السوريين الشرائية، يعني حكماً تغييراً في طبيعة قطاع الأعمال السوري المنتج. بما يتطلب رفع مستواه ليتجاوز المرحلة السابقة التي كان فيها ورشة تصديرية قائمة على رخص العمالة.
تغييراً يجب أن يكون قائماً على تقليص الربح القائم على شحّ الأجور، وزيادة الناتج القائم على رفع الكفاءة الاستثمارية. ويتطلب أن تكون الدورة الاقتصادية السورية، محلية إلى حد بعيد، فيستهلك السوريون ما ينتجونه، وينتجون ما يحتاجونه... ويدور الناتج ليوسع الاستثمار، ويزيد من قدرات ومهارات القوى العاملة السورية. فبالنهاية سورية بلد صغير من حيث الموارد والقدرات التصديرية، وزوّادته الأساسية للنمو المستقبلي هي: امتلاك قوى بشرية ومجتمع شاب وحيوي، يجب أن يكون تطويره غاية ووسيلة النمو الاقتصادي، لتنتهي عقود من النمو الضعيف والمتخلف القائم على إفقار المجتمع وإثراء القلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
904
آخر تعديل على الثلاثاء, 12 آذار/مارس 2019 13:28