عتبات في الاقتصاد الدولي 2018: الدولار- الحرب التجارية- التباطؤ الصيني

عتبات في الاقتصاد الدولي 2018: الدولار- الحرب التجارية- التباطؤ الصيني

شهد عام 2018 مفاصل اقتصادية دولية هامة... شكلت جزءاً من لوحة الصراع في الاقتصاد العالمي المستمر، بين القوى الاقتصادية التي تصعد عالمياً وتريد إزاحة ثقل الهيمنة المالية الأمريكية السابقة، وبالتحديد عبر الدولار ومؤسساته، وبين محاولة أمريكا وقف هذا المسار وعرقلته. الصراع الذي يحتد ويؤثر على مسار الأزمة الاقتصادية العالمية وترقب دخولها في أطوار أعلى من التأزم المالي والتجاري والتباطؤ الاقتصادي.

النفط المسعّر باليوان
أطلقت الصين عقود النفط المستقبلية المقيّمة باليوان، في بورصة شانغهاي الدولية للطاقة في الشهر الثالث من عام 2018. لتفتح مستقبلاً، احتمال تبادل 17% من النفط العالمي الذي تستورده الصين... باليوان. وعلى الرغم من التحذيرات والتنبؤات السلبية التي سبقت الإصدار، فإن سوق التبادل باليوان أثبتت نفسها، إذ تجاوزت قيم تداولها قيم عقود النفط الآجلة بالدولار في سوقي سنغافورة ودبي... ولا تزال قيم تداول عقود النفط باليوان في سوق شانغهاي، أقل من قيم عقود النفط مقابل الدولار في مراكزها الأساسية: (عقود برنت المتداولة في لندن، وعقود خام غرب تكساس، في نيويورك). ومع ذلك فإن عقود النفط مقابل اليوان، استطاعت خلال تسعة أشهر منذ الإطلاق، أن تتحول إلى منافس معتمد ومعترف به، من قبل أطراف هامة في تجارة السلع العالمية، وتُسعّر بطريقة مماثلة للتسعير في مؤشري برنت وغرب تكساس.
إن تسعير جزءٍ من النفط باليوان، من المتوقع أن يوسع نطاق التداول العالمي بالعملة الصينية. طالما أن مزيداً من مستوردات الصين من النفط ستسعّر بعملتها المحلية، فإن المزودين الأجانب سيكون لديهم المزيد من الحسابات باليوان، التي يستطيعون أن يشتروا بها ليس السلع والخدمات الصينية فقط، بل كذلك سندات الخزينة الصينية. وهذا بدوره سيزيد من قدرات سوق التمويل الصينية، ويوسع نطاق عالمية اليوان، وبالحدود الدنيا، فإن هذا الإجراء يُجري نقلة في فك ارتباط سوق النفط العالمية بالدولار.
إن فتح الباب لتجارة النفط باليوان، في الوقت الذي تواجه فيه الصين والعديد من الاقتصادات الأخرى التعرفات الجمركية العدائية الأمريكية، والاحتمالات المفتوحة للتبادل باليوان في العديد من أسواق السلع الأخرى... كل هذا يشير إلى أن الدولار الأمريكي قد يواجه تحدياً غير مسبوق لهيمنته العالمية. ويدفع إلى أنه في المستقبل القريب قد لا نرى الدولار «ركيزة النظام النقدي العالمي». الأمر الذي قد يُنهي ما أسماه الرئيس الفرنسي السابق، جيسكار دستان «الامتياز الباهظ»، الذي تمتعت به الولايات المتحدة نتيجة هيمنة الدولار في التجارة الدولية
الفيدرالي يستمر برفع أسعار الفائدة
في شهر 12-2018، أقرّ الفيدرالي الأمريكي زيادة سعر الفائدة قصيرة الأجل بمقدار ربع نقطة مئوية، لترتفع من 2,25 إلى 2,5%، وهي الزيادة الرابعة خلال 12 شهراً، الارتفاع الذي كان متوقعاً قبل عام، سيستمر... حيث أشار أعضاء اللجنة الفيدرالية (FOMC) إلى أن 2019 سيشهد زيادتين إضافيتين لسعر الفائدة، بمقدار ربع نقطة لكل منهما.
إن هذا الرفع يعني أن سياسة التيسير الكمّي* المتبعة منذ عام 2008 كاستجابة للأزمة المالية، ستتباطأ، ما يدفع إلى التساؤل حول تأثيرات هذا على الدول المتقدمة والنامية.
بعض المحللين يرون هذه الخطوة (رفع سعر الفائدة وإنهاء التيسير الكمّي)، كجزء من الانقسام العميق في حكم الولايات المتحدة. لقد انتقد ترامب البنك الفيدرالي ورئيسه جيروم باول، لرفع أسعار الفائدة، وأشار ترامب إلى أنه يجري مشاورات لاحتمال إقالة رئيس الفيدرالي. محللون آخرون يرون أن سياسة رفع الفائدة، سبقت وصول ترامب إلى الرئاسة، وأنها نتيجة لواقع أن سياسة المال الرخيص، لم تعد قابلة للاستمرار، وتحديداً مع تضاعف الدَّين الأمريكي من هذا المال السهل، بما يقارب ثلاث مرات منذ عام 2008.
تعاني الأسواق الصاعدة من هذا الارتفاع كذلك الأمر، فالضغوطات تنجم عن هروب رؤوس الأموال خارج أسواق هذه الدول بشكل متوسع، بما يشكل ضغطاً على قيم عملات هذه الدول، وميزان مدفوعاتها. وبشكل عام فإن الشركات التي تتابع تطور أسهم البرازيل والمكسيك وروسيا والصين والهند وكوريا الجنوبية، تشير إلى انخفاضها كلها بنسبة 7% على الأقل في العام الحالي. وتراجع تدفق الاستثمارات إلى المحافظ الاستثمارية في الدول النامية من 13,7 إلى 2,2 تريليون دولار خلال شهر واحد في آب 2018.
إن رفع أسعار الفائدة، وإيقاف تدفق المال السهل، إجراء يحمل تأثيرات واسعة على مسار أزمة الديون العالمية، إذ يزيد من احتمالات انفجارها مع صعوبة إعادة تمويل الدَّين، الذي ترتفع تكاليفه برفع الفائدة (إذ ارتفعت تكاليف الدَّين الأمريكي مثلاً بنسبة 800% منذ بدء رفع الفائدة في 11-2015).
كما أن لرفع أسعار الفائدة دوراً في تموضع كتلة الدولار عبر العالم، إذ يرى محللون بأن هذه الإجراءات تهدف إلى استعادة الكتلة الأكبر من الدولار إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي تحتاجه الولايات المتحدة لمواجهة احتمالات اندلاع أزمة مالية عالمية جديدة يتوقعها الأمريكيون قبل غيرهم.
الضغط الاقتصادي الأمريكي
تتبع الولايات المتحدة الأمريكية ما يشبه سياسة، «الفوضى الاقتصادية الخلاقة» عالمياً، والتي تهدف إلى الضغط ليس على الأعداء فقط، بل على الحلفاء.
حيث استمرت سياسة الولايات المتحدة في نسف الاتفاقيات الدولية السابقة، ومحاولة إعادة ترتيب العلاقات في إطارات ثنائية، تكون الولايات المتحدة فيها أعلى وزناً وأكثر قدرة على التفاوض. وهو ما وجد دلائله في الانسحاب من اتفاقية المناخ، ومن سعي الولايات المتحدة لعرقلة أية اتفاقيات في إطار مجموعة الثماني، ومجموعة العشرين. وظهر أيضاً في رفع التعرفة الجمركية على الأوروبيين وإعادة التفاوض عليها، لتخفيضها لاحقاً. وفي هز اتفاقية نافتا، بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وإعادة التفاوض عليها في العام الحالي. أما على مستوى «الأعداء»، فقد استمر توسيع سياسة العقوبات الاقتصادية، التي شملت روسيا وإيران وتركيا بشكل أساس... ودفع تصعيد هذه العقوبات في العام الحالي، إلى توسّع الحديث عن سبل تجاوز العقوبات، عبر إزاحة الدولار من التبادلات الثنائية بين هذه الدول. فكل من روسيا والصين وإيران وتركيا، تعلن استعدادها لإزاحة الدولار من تداولاتها الثنائية، وسارت خطوات في ذلك في مجالات وصفقات محددة. وتوسع الإطار في العام الحالي ليشمل مبادرات للتبادل بالعملات المحلية من دول، مثل: الهند وكوريا الجنوبية، في ظل الحديث عن حاجة البلدين لتبادل النفط مع إيران.
كما أن تجاوز العقوبات وتخفيض فعاليتها، دفع للحديث في العام الحالي عن إنشاء بنية مؤسساتية بديلة للتبادل الدولي، تجعل الولايات المتحدة غير قادرة على المراقبة والتحكم بعمليات التبادل، وبالتالي ملاحقة المخالفين وفرض عقوبات. وذلك عبر إنشاء منظومات سويفت* مستقلة، في روسيا والصين لا تزال تقتصر على الإطار المحلي، بل والحديث الأوروبي عن ضرورة إنشاء سويفت مستقل...
الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين
وصلت الولايات المتحدة إلى نهاية تبني حرية التجارة، التي كانت المدافع الأشرس عنها لعقود مضت، وذلك عندما أعلنت تبنّي الحمائية التجارية الانتقائية مع شركائها الاقتصاديين، ووصلت إلى الحرب التجارية مع العدو الإستراتيجي الأهم: الصين.
تنشأ الحرب التجارية عن النزاع الاقتصادي الناجم عن سياسة حمائية تجارية مفرطة، برفع التعرفات الجمركية أو الحواجز الأخرى أمام تدفق البضائع من دولة إلى الدولة الأخرى التي تحاربها تجارياً، والتي تقوم بإجراءات مماثلة.
إن إقرار التعرفات الجمركية، كان واحداً من الوعود الانتخابية للرئيس الأمريكي ترامب. استهدفت الحمائية الأمريكية السلع الصينية التي تتمتع بميزة تنافسية، وإجمالاً أدرجت أمريكا قائمة بأكثر من 1300 من تصنيفات المستوردات الصينية، لتطبق عليها التعرفة الجمركية، بهدف الوصول إلى تخفيض عجز الميزان التجاري الأمريكي مع الصين بمقدار 200 مليار دولار حتى 2020.
الولايات المتحدة تستهدف ضمن ما تستهدفه في حربها التجارية، قطاع التكنولوجيا الصيني، إذ تهاجم القوانين الصينية لتقويضها حقوق الملكية الفكرية، وذلك من خلال إجبار الشركات الأجنبية على الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات الصينية، الأمر الذي يمنح هذه الأخيرة إمكانية الوصول إلى التكنولوجيات الأمريكية، لتستخدمها أو تطورها أو تنسخها، أو تسرقها، كما يقول الطرف الأمريكي. إذ يرى أن الصين تفشل في الاعتراف وحماية حقوق الملكية، وبراءات الاختراع، وتمارس سياسات تمييزية ضد التكنولوجيا المستوردة من الخارج، كما تتهم الصين بأنها أقرت مجموعة من الحواجز غير الجمركية، التي تعزل قطاعات صينية عن أثر المنافسة العالمية. قطاع التكنولوجيا الصيني مستهدف أمريكياً بسبب تسارع التطور الصيني في مجالات التكنولوجيا فائقة التطور، إذ ضاعفت الصين قيم إنتاجها خمس مرات بين عامي 2003 و2016، من قرابة 70 مليار دولار إلى 380 مليار دولار، وقاربت الرقم الأمريكي الأول عالمياً بمقدار 435 مليار دولار.
في المراحل الأولى من الحرب التجارية، مارست الصين الكثير من ضبط النفس، ودعت إلى الحوار، ورفضت الوصول إلى أي نوع من الحرب التجارية، محذّرة من مخاطرها على الاقتصاد العالمي. ولكن بعد شهرين بدأت الصين بالرد، وكان ذلك بتطبيق التعرفة على أكثر من 128 منتجاً مستورداً من الولايات المتحدة الأمريكية، كما أوقفت واردات النفط والغاز المسال الأمريكي، لفترات ثم أعادته. واستمرت الولايات المتحدة في سياسة التصعيد، ومؤخراً قبلت الصين أن تقلص من العجز التجاري الأمريكي معها. وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق هدنة الـ 90 يوماً، في الأول من كانون الأول، لا تزال هنالك الكثير من الأسئلة والتشكيك، في إمكانية الوصول إلى اتفاق تجاري ثنائي، ووقف الحرب التجارية، الأمر الذي يُبقي الاقتصاد العالمي في حالة قلق وعدم يقين.
تباطؤ الاقتصاد الصيني
بعد عقود من التوسع السريع، فإن الاقتصاد الصيني يشهد تباطؤاً اليوم. من المتوقع أن يكون النمو الاقتصادي في عام 2018، الأقل منذ عام 1990 في الصين! بدأ تباطؤ النمو منذ شهر أيلول 2018، وأخذ الوضع يسوء خلال الربع الأخير من 2018...
فإذا ما أخذت عوائد الضرائب كمؤشر، فإن عوائد ضريبة الاستهلاك على سبيل المثال، قد ارتفعت بنسبة 16,3% عن عام مضى في شهر أيلول، ثم انخفضت هذه العوائد بشكل سريع بعد ذلك، لتسجل تراجعاً في عائداتها بنسبة 62%، و71% خلال الفترة ذاتها بين عامي 2017-2018. تراجعت أيضاً عوائد ضريبة القيمة المضافة، بمعدلات سلبية في الأشهر الثلاثة الأخيرة. وهذه المؤشرات تشير إلى أن التراجع أوسع مما أقرت به الحكومة الصينية حتى الآن. التباطؤ الصيني، يحمل آثاراً واسعة عالمياً، فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد عالمي من حيث قيم الناتج، وهي الشريك التجاري الأول لأكثر من 120 دولة عبر العالم، وهي أكبر مصدّر للسلع حيث تستورد المواد من السوق العالمية لتزودها بمختلف السلع. كما أنّ التوسع الكبير في الطبقة الوسطى الصينية، قد حولها إلى السوق الأكبر لبضائع الاستهلاك، وتراجع هذه السوق غير قابل للتعويض. التباطؤ الصيني، مع مؤشرات الفوضى وعدم اليقين الاقتصادي العالمي، حملا تأثيرات سلبية على توقعات النمو للعام القادم، وأديا إلى استمرار انخفاض القيم الإجمالية لمؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية الرئيسة للعام الثاني على التوالي، بعد عشر سنوات من النمو السنوي للمؤشرات. كما شهدت نهاية هذا العام عودة أسعار النفط العالمي للانخفاض، والتراجع الكبير في الفقاعات المالية التي استعرت أسعارها كالعملات الإلكترونية، بالإضافة إلى خسارات كبيرة في قيم أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى... العديد من المحللين الاقتصاديين يراقبون هذه المؤشرات وغيرها، ويترقبون الحدث الذي يمكن أن يطلق شرارة أزمة مالية عالمية سيكون مداها أوسع من أزمة 2008.
*سياسة التيسير الكمي: السياسة المعتمدة منذ ما بعد 2008، في المراكز المالية في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، بالتوسع المالي عبر توسيع الإقراض بفوائد قاربت الصفر خلال الفترة بين 2008 وحتى الآن، حيث تتراجع هذه السياسة في الولايات المتحدة، واوروبا بوتائر مختلفة وتستمر في اليابان حتى الآن.
*منظومة سويفت: مؤسسة مراسلات مالية دولية يتم عبرها الجزء الأكبر من التبادل التجاري العالمي.