الدولار... لن يداوي (داء الدولار»
ليلى نصر ليلى نصر

الدولار... لن يداوي (داء الدولار»

تعلم الولايات المتحدة أن العالم سيواجه قريباً موجةً جديدةً من الأزمة المالية العالمية، تختلف تقديرات الخبراء على اندلاعها في نهاية 2018، أم خلال العامين القادمين... وهذه الأزمة إن أردت تبسيط مسبباتها، فعليك أن تقرأ وضع الدولار، الذي يتحول اليوم إلى الداء والدواء لأزمة المركز الرأسمالي.


فقاعة الدولار المنتشر عالمياً مرشحة دائماً للانفجار، تحت وطأة أي استعصاء اقتصادي هام، وما أكثرهم الآن: (كالأزمة في تركيا أو الأرجنتين أو ديون إيطاليا أو تراجع أسهم شركات التكنولوجيا وغيرها). ولكن هذه الأزمات لا تؤدي إلى التداعي في وضع الدولار العالمي، إلا على قاعدة تراجع الطلب على الدولار، العملية المتسارعة اليوم (مع موجة السعي للتعامل بالعملات المحلية، وتوجه الصين إلى شراء النفط باليوان، وبيع سندات الدولار من قبل روسيا والصين وتركيا قبلها وغيرها).
إعادة الدولار إلى أمريكا محاولة للحل
الدولار المنتشر عالمياً لن يستطيع الاستمرار في توسعه، بل لن يستطيع أن يستمر بقيمته الحالية، بسبب مجموعة الأسباب التي تؤدي إلى تراجع الطلب عليه. وهو كأية سلعة، تنخفض قيمته مع تراجع طلبه.
وعلى هذا الأساس فإن مالكي المال العالمي في الولايات المتحدة يسعون إلى إحداث انعطافة في تموضع الدولار عالمياً علّهم يقللون خسائر قيمته! إذ يسعى هؤلاء لإعادة الدولار إلى موطنه، في الولايات المتحدة الأمريكية. العملية التي أصبحت واضحة، من خلال رفع أسعار الفائدة على سندات الدولار، من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي، ومن خلال الإعلان عن إيقاف سياسات التيسير الكمي بشكل شبه كامل مع مطلع العام القادم. أي: إيقاف عملية طباعة الدولار وضخه كديون للحكومة الأمريكية أو للمنظومة البنكية العالمية.
فكيف تخدم إعادة الدولار إلى موطنه هدف حماية الدولار؟! إن هذه العملية قد تخدم المحافظة على الدولار من انهيار قيمته، باتجاهين، أحدهما: خارجي، والآخر داخلي، ولكن أمام كل منهما استعصاءات ومخاطر.
الطلب الخارجي عبر الديون
وخطر الامتناع عن السداد
الأول على مستوى الطلب العالمي على الدولار: إذ يسعى الفيدرالي إلى خلق طلبٍ على الدولار عالمياً، وذلك عبر الدين العالمي الذي يشكل الدولار 70% منه. فعندما تقلّص الولايات المتحدة ضخ التمويل الرخيص إلى العالم، وترفع سعر الفائدة، فإن الديون المنتشرة عالمياً ستستحق سدادها، ولن تجد مصدر تمويل إضافي بديون جديدة، كما كان يحصل سابقاً. وستؤدي محاولات الدول لإنقاذ اقتصاداتها من الإفلاس، إلى زيادة الطلب على الدولار لتمويل سداد الديون.
وخلاصة الآلية هي التالي: تقليص مصادر التمويل العالمي الرخيص، التي كانت تأتي من منبع الدولار في الفيدرالي الأمريكي، وخلق نقص في السيولة العالمية، الأمر الذي يشكل طلباً على كتلة الدولار الموجودة حالياً. (قاسيون 878)
ولكن هذه العملية، تعني تفجير أزمة الديون العالمية، الديون التي تبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج العالمي. وهي غير القابلة للسداد. ما يفتح احتمالاتِ الإفلاس على أبوابها الواسعة سواء ضمن القطاعات الاقتصادية، أو حتى ضمن موازنات الدول، وتحديداً المتقدمة منها، هذه التي تمتلك أعلى مستوى من الديون قياساً إلى ناتجها. وهذا يؤدي إلى إيقاد أزمة مالية عالمية، واستعصاء في سداد الديون، وبالتالي انهيارات متداعية في منظومة المال والمصارف العالمية، وخسائر كبرى لمنبع المال العالمي أي: الدولار، هذا عدا عن الإجراءات الجذرية التي قد يدفع إليها استعصاء الدين، بالامتناع عن السداد. وصولاً إلى إجراءات تسريع مصادر السيولة العالمية الأخرى البديلة، كاليوان وغيره. وبالتالي فإن هذا الإجراء الأمريكي، يتضمن احتمالاً كبيراً: (انقلاب السحر على الساحر». فالديون قد لا تسد، والتمويل قد يأتي من مصادر أخرى عدا الدولار.
الطلب الداخلي عبر النمو:
الداخل لا يُعزل عن الخارج
من جهة أخرى فإن نقل الدولار إلى موطنه، له هدف في الداخل الأمريكي. حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تحويله إلى مصدر تمويل استثماري في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث يجب ربط هذا بالشق غير المنفذ بعد من برنامج ترامب، والذي يقول بالتمويل الحكومي الاستثماري الواسع للبنى التحتية في الولايات المتحدة، وتوسيع الصناعة وغيرها من الإجراءات. (برنامج ترامب الاقتصادي- البيت الأبيض)
أي: أنّ لدى أطراف في الولايات المتحدة، تقديراً بأن إعادة الدولار إلى موطنه، يمكن أن يتحول إلى عملية نمو واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية، يستكمل تحقيق شعار: (أمريكا أولاً». فالنمو يعني زيادة الطلب الداخلي على الدولار، ويعني عملياً رفع قيمته، بما يعوّض جزءاً من تراجع الطلب العالمي عليه.
ولكن هذا التقدير، تقف أمامه عوائق كبرى... أولها: أن النمو والناتج الأمريكي، يرتبط بمنظومة خدمات المال الأمريكية، هذه التي يتكثف فيها التشابك العالمي. حيث إن مجموع الأصول المالية التي تمتلكها المؤسسات المالية الأمريكية داخل الولايات المتحدة تقارب 48 تريليون دولار، وهي ثلاثة أضعاف الناتج الأمريكي، و60% من الناتج العالمي. ولا يمكن أن تخسر البنوك الأمريكية وقطاع المال، دون أن تؤدي إلى استعصاء اقتصادي أمريكي، بل عالمي، في نشاط القطاعات الاقتصادية الأخرى. فاهتزاز البنوك قد يؤدي إلى توقف التمويل، والتجارة، وحتى الاستهلاك، وبالتالي صعوبة تجديد العمليات الإنتاجية، في الولايات المتحدة قبل غيرها.
إن مسعى زيادة النمو الأمريكي سيكون صعباً، وهو ما قد يدفع إلى رفع مستويات البطالة والتضخم إلى حد كبير، ومع كل ما ينتج عن هذا من ارتفاع مستوى الاحتقان الاجتماعي، في البلد المشحون بالعنف والسلاح.

يعتقد أباطرة المال في الولايات المتحدة الأمريكية أن الدولار العالمي هو سلاحهم الأخير، في معركة إدارة الأزمة الاقتصادية الآتية لا محالة. بعد أن أصبحت أداة التدمير عبر الحروب الكبرى، مسألة منتهية الصلاحية. ولكن هذا السلاح يتحول إلى ترسانة تثقل حركة التراجع الأمريكية لتطبيق برنامج (أمريكا أولاً» الإنقاذي.
الدولار العالمي، هو التشابك المالي والاقتصادي الأمريكي مع الاقتصاد العالمي بعمق. حيث يصبح من الصعب إنقاذ الدولار، عبر الهجوم على النمو الاقتصادي العالمي، والتجارة الدولية، والتمويل. إننا نشهد لحظة نهاية الربح الهائل المتحقق من هيمنة الدولار والقطاع المالي الأمريكي المتعاظمة منذ سبعينيات القرن الماضي، الربح الذي بلغت نسبه في ورقة الـ 100 دولار: 250 ألف بالمئة! فأي تداعٍ قد ينجم عن تراجع ربح بهذا الحجم؟! ومن أين ستعوض الولايات المتحدة هذا الربح لتستمر بالإنفاق على العسكر والحكومة وغيرها؟! إن انقسام النخبة الحاكمة الأمريكية يعكس أزمة الخسائر الكبرى الحالية والقادمة (لملوك المال»، وهو انقسام حول مسار التراجع وتحميل الخسائر. وهو لا يزال في بدايته، وينبئ مع اشتداد الأزمة بمزيد ومزيد من الصراع داخل البلد الذي تحول إلى مركز عملياتهم.

آخر تعديل على الإثنين, 08 تشرين1/أكتوير 2018 13:56