ما هكذا يُستثمر الفوسفات...

ما هكذا يُستثمر الفوسفات...

يجري التفاوض الاستثماري اليوم، بشكل سريع، للوصول مع أوائل المستثمرين المبادرين إلى عقود وسط الظروف الحالية، التي تفرض على الحكومة موقعاً تفاوضياً متدنياً. فعملياً المستثمر حالياً يعمل في ظروف بلد محاصر، وغير مستقر... ويعتبر أن هذه التضحية تتطلب الحصول على مزايا عديدة بالمقابل! ولا يجد أطرافاً سورية غيورة على الموارد العامة، بل يلقى كل الترحيب والمرونة تجاه شروطه.

هذا ما حصل في عقد استثمار الفوسفات في مناجم الشرقية، مع الشركة الروسية الخاصة، التي حصلت على عقد بنسبة استثنائية 70%، مقابل 30% فقط للحكومة. كما أن المعلومات تشير إلى أن عقداً إيرانياً في المنطقة ذاتها، قد أبرم بالشروط ذاتها، ولكن لم تتوفر عنه تفاصيل وافية، بينما تفاصيل جديدة حول العقد مع الشركة الروسية توضح كم المفارقات والهدر في مثل هذه «الاتفاقات الاستثمارية» التي تُعقد في ظروف كهذه.

الشركة لم تغادر سورية... ولكن!
الشركة الروسية المتعاقدة والعاملة في مجال الطاقة وإنشاءاتها، كانت الوحيدة التي أبقت أعمالها واستثماراتها في سورية، خلال الأزمة. ولم تنسحب أو توقف أعمالها رغم ظروف العقوبات والظروف الأمنية، كما فعلت الشركات الغربية. ومنذ عام 2005 ساهمت بمد خط الغاز العربي، وبإنشاء معمل غاز جنوب المنطقة الوسطى، وشمال المنطقة الوسطى...
ورغم هذه الميزة الهامة للشركة والتي تُسجّل لها، والمرتبطة إلى حد بعيد بالموقف السياسي لجمهورية روسيا الاتحادية... إلّا أن عدم خروجها من سورية، واستمرارية عملها، لا تبرر حصولها على عقود ومزايا استثنائية، وتحديداً عندما تكون لآجال زمنية طويلة، وعلى حساب الموارد العامة السورية، التي نحن بأشد الحاجة لها.
العقد الذي يشمل منطقة مناجم الشرقية (الصوانة) في تدمر، يتبين بالتفاصيل أنه يشمل استثماراً في بلوكين ضمن المنطقة، بينما البلوك الثالث استثمار إيراني، تشير المعلومات كما ذكرنا سابقاً إلى أن ظروف ونسب استثماره مشابهة، رغم عدم نشر معلومات محلية عنه، سوى إبرام العقد وتصديقه من مجلس الشعب.
وقد احتوت المنطقة على كميات من الفوسفات المستخرجة في مراحل سابقة، والموضوعة فوق سطح الأرض، والتي قامت الشركة بعد أن تحررت المنطقة بإعادة تجهيزها، ونقلها وبيعها «فوب» من ميناء طرطوس، وفق عقد مع الحكومة، وبحصة للمؤسسة العامة للجيولوجيا، وهي الجهة الرسمية التي تمتلك الحق باستثمار هذه الموارد.

استثمار- نقل- بيع
لقد تلا هذه العملية، توقيع عقد الاستثمار الكامل، لاحتياطي الفوسفات غير المستخرج في المناطق المحددة. والذي يضم إنتاجاً سنوياً 2,2 مليون طن، لمدة خمسين عاماً، وهي كمية تفوق 60% من إنتاج الفوسفات السنوي عام 2010. وستقوم الشركة بإنشاء معمل لغسل الفوسفات، وتجهيزه ليكون دون شوائب تقلل من سعر التصدير العالمي، وبتكلفة استثمارية تقارب 150 مليون دولار.
كما يشمل العقد أن تقوم الشركة بعمليات نقل الفوسفات وبيعه، وفي نهاية العملية وبعد البيع في ميناء طرطوس وباسم الشركة الروسية، فإن الجهة المستثمرة تحصل على 70%، بينما تحصل المؤسسة الممثلة للمال العام على نسبة 30% من مبيع الإنتاج. ويتم دفع حق الدولة من الخامات المعدنية المحدد على أساس نسبة من السعر المحلي: (وفق أسعار عام 2015 والذي لا يتعدى 760 ليرة للطن، وأقل من 2 دولار عن الطن، ستدفعه الشركة المستثمرة، والمؤسسة العامة للجيولوجيا معاً).
النسبة المرتفعة للشركة، مبنية على التكلفة الاستثمارية، وعلى عمليات النقل، وعلى عمليات البيع باسم الشركة.
فإذا ما بحثنا في كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة: الكلفة الاستثمارية، والنقل، والبيع يمكن القول أنه: ما من خدمات استثنائية!

150 مليون دولار استثمار قليل
إذا نظرنا إلى المبلغ الاستثماري البالغ 150 مليون دولار، والذي يتضمن بالدرجة الأولى معمل الغسل. فإن هذا المبلغ الذي يقارب اليوم: 64 مليار ليرة. لا يشكل سوى نسبة: 1.4% من الموازنة العامة السورية المرصودة في عام 2018، وأقل من ربع الأرباح السنوية الفعلية للصناعة الاستخراجية السورية في عام 2015 والبالغة 286 مليار ليرة تقريباً، عندما كان إنتاج النفط لا يزال بأدنى مستوياته.
أي: أنه رقم استثماري منخفض، يمكن تعويضه بمبيعات 3 ملايين طن من الفوسفات بسعر 50 دولاراً، وبأرباح إنتاج خمس سنوات فقط...
فإذا ما أخذنا نسبة التكاليف للربح لدى المؤسسة العامة لإنتاج الفوسفات، كمقياس: فإن نسبة الربح من مبيع الطن الخارجي تقارب 70%، حيث إن تكلفة إنتاج الفوسفات السوري قاربت 14 دولاراً للطن في 2015، والربح ما يقارب 36 دولاراً للطن، وفق بيانات وزارة النفط الواردة في المكتب المركزي للإحصاء لعام 2015.
الجدير بالذكر أنه كان لدى وزارة النفط خطة معلنة، بإنشاء وحدتي غسل للفوسفات في المنطقة ذاتها في عام 2009. عندما أشار وزير النفط «العلاو» في حينه إلى أنه بدأ العمل على إنشاء وحدتي غسل بتكلفة 100 مليون يورو، أي: حوالي 150 مليون دولار في حينه، لتكون مملوكة للمؤسسة... ولم تنجز بطبيعة الحال في حينه عندما كانت تكلفتها 7 مليار ليرة تقريباً، ونسبة 1% من الموازنة الحكومية!

النقل والبيع خدمة أم ميزة!
أما فيما يخص نقل الفوسفات، فعملياً السكك الحديدية السورية الموجودة حالياً ممتدة من الشرقية إلى حمص وطرطوس، ولا توجد مزايا هامة يمكن تأمينها بعمليات النقل، وتحديداً بعد غياب المخاوف المرتبطة بالنقل، وحاجته للحماية في تلك المنطقة.
وأخيراً، عمليات البيع لصالح الشركة أو باسمها، تبرر حالياً بظروف العقوبات، حيث لا تستطيع المؤسسة العامة للجيولوجيا في الظروف الحالية أن تصدر الفوسفات باسمها، وتحتاج إلى وسيط لتجاوز العقوبات. وهذا الجانب يجعل حصة الوكلاء والوسطاء في التعامل الحكومي الخارجي، مرتفعة عموماً. ولكن ما ينطبق على عام 2018، قد لا ينطبق على العام القادم، ومن المؤكد أنه لن ينطبق على الفترة القصيرة إلى المتوسطة القادمة، التي ستشهد رفع العقوبات.
ومقابل «خدمة البيع» هذه التي تقدمها الشركة للسوريين، فإن الخسائر كبيرة. فنحن قد لا نحتاج إلى وسيط لبيع الغاز في المستقبل القريب وبعد رفع العقوبات، أو قد يكون بالإمكان أن تكون حصة الوساطة مؤقتة، وأقل تكلفة مع وسطاء آخرين. لذلك فإن كلاً من تسليم النقل والبيع للشركة، لا يعتبر في الأجل القريب خدمة منها لنا، بل هو ميزة لها تزيد من حصتها ونسبتها من الإنتاج.

رهن الفوسفات للتصدير لـ 50 عاماً
إن وجود عقد بيع الفوسفات كخام مغسول فقط، يربط الإنتاج بالشركة وبالتصدير الخام لمدة 50 عاماً، كفيلة باستهلاك الاحتياطي في المنطقة المستثمرة، يعني عملياً: فوات الفرصة على استخدامات الفوسفات في حاجات الاستهلاك المحلي الصناعي والزراعي، وهي الكثيرة والمتعددة: فسورية كانت عملياً لا تصنّع إلّا نسبة 9% من الفوسفات المنتج، وبالمقابل كانت تستورد 40% من حاجاتها للسماد الفوسفاتي.
فاستخدامات الفوسفات المحلية لم تتعدَ صناعة حمض الفوسفور وسماد الفوسفات، بينما طيف استخداماته الصناعية والزراعية أكبر في إنتاج حمض الفوسفور الغذائي والصناعي والفوسفور الأصفر، وأنواع الأسمدة الفوسفاتية كافة البسيطة والمركَّزة، وكذلك في صناعة الأسمدة المركبة التي تحتوي على عنصر الفوسفور لتغذية الأراضي الزراعية، إضافة إلى استخداماته في صناعة العلف الحيواني، وغيرها.

خسائرنا من عقد فوسفات الشرقية
يمكن الوصول إلى تقدير لمجموع الخسائر في الموارد العامة من العقد الاستثماري لاستخراج وبيع الفوسفات في منطقة الشرقية (الصوانة)، بتقدير بسيط لحصة الشركة البالغة 70%.
فأولاً: 2,2 مليون طن إنتاج سنوي من المنطقتين المستثمرتين، وهذهِ المدة ستعني إنهاء الاحتياطي البالغ 105 مليون طن في تلك المنطقة.
وثانياً: تصدير هذه الكميات كخام مغسول ستعني عدم الاستفادة منها في توسيع تصنيع الفوسفات، وخسارة القيم المضافة المحتملة منه لاحقاً.
وثالثاً: تأتي خسارات الأرباح المباشرة التي تحققها الشركة، والتي يمكن تقديرها بحوالي 52 مليون دولار سنوياً بالحد الأدنى، سيبلغ مجموعها خلال 50 عاماً قرابة 3 مليارات دولار. على اعتبار أن سعر مبيع الطن المصدر خام بقي 50 دولاراً تقريباً كما هو اليوم، وعلى اعتبار أن التكلفة 14 دولاراً للطن، والربح 36 دولاراً للطن، مع 2 دولار حق الدولة.
لماذا نخسر هذه الخسارات، ولا نوفر هذه الموارد للمؤسسات العامة المالكة لحق الاستثمار... الجواب الحكومي سيكون بنقص الموارد، وبصعوبات التصدير واستيراد المعدات في الظروف الحالية.  
ولكن السؤال المنطقي: طالما أن المبلغ الاستثماري يقارب 150 مليون دولار فقط، ويشكل نسبة تقارب الربع من أرباح الصناعة الاستخراجية النفطية، وتقارب 1.7% فقط من مخصصات الموازنة؟ فلماذا لا يتم تخصيصه؟ ولماذا لا يتم التعاقد مؤقتاً مع وكلاء لتجاوز العقوبات، سواء لاستيراد المستلزمات، أو لتصدير المنتجات... حيث أياً كانت حصة هؤلاء، فإنها لن تصل إلى 70%، وستكون تكاليف مؤقتة إلى حين انتهاء الحصار الظالم على سورية.
إن تخصيص مبالغ من أرباح الصناعة الاستخراجية، أو من مخصصات الموازنة، أو حتى من الدَّين من المال العام... يصبح منطقياً طالما أننا نتحدث عن أرباح سنوية مقابلة تصل إلى 79 مليون دولار، إذا ما كان الإنتاج بكامله مملوكاً للدولة؟ ويمكن تعويض الاستثمار بفترة لا تتعدى السنتين.
إن عدم لجوء الحكومة إلى هذه الخيارات المنطقية، بحسبة الأرباح والتكاليف والعوائد، ناتج عن النهج السابق والمستمر لتهميش قدرة الجهات العامة على استثمار الموارد العامة، واللجوء إلى إشراك المستثمرين بهذه الحصة، دون ضرورة فعلية. هو المنطق ذاته الذي لم يستثمر الفوسفات سابقاً، ولن يستثمره اليوم... بل يربطنا بعقود طويلة الأجل سيحتاج السوريون إلى إجراءات صعبة لفكها والعدول عنها لاحقاً، عندما تصبح عملية استثمار الموارد العامة تتم بمنطقية وللمصلحة العامة، وليس كما هو الحال اليوم.


ثروة الفوسفات السورية لم تكن مستثمرة كما يجب، كما كل الموارد والطاقات والإمكانات السورية. فعملياً الاحتياطي البالغ 2 مليار طن، لم يكن ينتج منه سوى 0.17%* وهي من أقل النسب العالمية. ومن الكميات المنتجة لم يذهب إلى الصناعة سوى 9% والباقي للتصدير، وحتى المصّدر خاماً كان يصدّر بأكثر من ثلثيه دون عمليات الغسل التي ترفع سعره العالمي!
تلك الثروة المتمركزة في البادية السورية، في السلسلة التدمرية والحماد، وفي المنطقة الساحلية بنسبة أقل، قد تتحول إلى مورد أهم من النفط مع تراجعه... ولكن إن كان إيصال الإنتاج إلى 10 مليون طن سنوياً، كما تصرح الحكومة، سيتم عبر عقود مماثلة للعقد مع الشركة الروسية الخاصة أو مع الطرف الإيراني، فإن هذه الثروة ستنتقل للمستثمرين عملياً.
إن الوصول إلى عقود استثمار في اللحظة الحالية، ومن موقع تفاوضي ضعيف، يعتبر بمثابة ابتزاز للحظة صعبة من الأطراف المستثمرة، وعدم مسؤولية حكومية وتهاون تجاه مستقبل موارد الثروات السورية، التي يتم التصرف بها حالياً.