ترامب... (يحمي أمريكا)

ترامب... (يحمي أمريكا)

يقف الاقتصاد العالمي على عتبات أزمة اقتصادية مركبة: الدّيون والركود والتجارة، ويتوقع العديدون أن الفقاعة القادمة في أزمة المال العالمية، لن تكون جزئية، بل ستمثل انفجار أزمة الديون العالمية، وستكون أكبر من أن يكون بالإمكان انتشال بنوكها الكبرى، كما حدث في أزمة عام 2008، وقد تطيح هذه الأزمة بقطاع المال العالمي المتضخم، بل والدولار ذاته!

كان ترامب واضحاً في حملته الانتخابية عندما قال: «أمريكا أولاً» وهو ما يعني ضمناً: «الحلفاء وبقية العالم تالياً» ولا يقول الرئيس الأمريكي هذا إلا تعبيراً عن استراتيجية مواجهة «ما هو أعظم» فأمريكا وسط الأزمة العالمية القائمة والقادمة تريد أن تُسرع بالهرب... علّها تكون أقل الخاسرين الكبار خسارة.

وإن كان هذا ما تتداوله الأوساط الاقتصادية العالمية التي ترصد الأزمات وتتنبأ بها، فإن «أهل الحكم الأمريكي أدرى بشعابهم»، وهم يستعدون للأمر الواقع المتمثل بانتهاء النهب العالمي عبر قطاع التمويل الذي قاده الدولار منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقطاع المال المضاربي المتضخم منذ النيوليبرالية في الثمانينيات.
ثلاثة أبعاد للتعامل الأمريكي مع الأزمة
في مواجهة كل هذا يبدو السلوك الأمريكي اليوم «تسعيرياً- انسحابياً» وبأبعاد ثلاثة، أولاً: تريد الولايات المتحدة أن تنسحب تدريجياً من المعركة العسكرية العالمية التي جربتها منذ عام 2001 لمواجهة الأزمة، ولم تفلح بتثبيت «الهيمنة الأمريكية إلى الأبد». وثانياً: تريد أن تسعّر المعركة الاقتصادية عالمياً عبر أداتين أمريكيتين هامتين: التجارة والدَّين. وثالثاً: وهو الأهم أن هدف كل هذا نجاح الانكفاء الأمريكي، وحماية أميركا أولاً، ومركزة القوة بداخلها.
وهذه المعالم الأساسية تظهر في برنامج ترامب الانتخابي... فوفق هذا البرنامج لا تريد الولايات المتحدة أن تسعّر الحروب مع الأطراف وفي المواقع التقليدية، وتبدي سلوكاً انسحابياً تدريجياً من الشرق الأوسط، ومن شرق أوروبا، ومن الناتو عموماً، أي: تريد ضمناً تبريد الصراع العسكري مع روسيا، وتخفف مؤخراً من التوتر العسكري في الشرق الأقصى كما يظهر من مآلات الأزمة الكورية. ولا تكترث باستمرار التحالف الاقتصادي- السياسي مع الأطراف التقليدية، وفي مقدمتها أوروبا.
وفي المقابل يشمل برنامج ترامب الاقتصادي مزيداً من التمويل الحكومي للبنى التحتية الأمريكية، وتحريك الطلب الداخلي الأمريكي. أما تمويل ترامب للعسكر فيرتبط غالباً بالأهمية المركزية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، بقيادة التكنولوجيا والتصنيع. الذي ينال حصةً هامةً من اهتمام برنامج ترامب الانتخابي حيث يريد مزيداً من التخفيضات الضريبية لصالح الشركات الأمريكية والتصنيع عموماً، ومزيداً من الحماية لها من المنافسة الأوروبية والصينية في الداخل الأمريكي. وقد يكون هذا البرنامج الاقتصادي هو الطريقة الأهم لحماية النظام الأمريكي عبر ترسيخ المصالح الاقتصادية الكبرى في الداخل، في ظل الخسائر القادمة من الأزمة العالمية، وعدا عن هذا فإن أمريكا في ظل انقسام كبار حكامها مهددة بالتفكك.
معركة أميركية - أميركية
يجري كل هذا السلوك وسط معركة أمريكية - أمريكية، فالرئيس الأمريكي وبرنامجه الانتخابي يمثل قوى في الحكم الأمريكي، ويتناقض مع مصالح قوى أخرى، لا تكل من مهاجمته، وتفخيخ إدارته. والانقسام الأمريكي لا تتضح تماماً معالمه إلا بالعام، ومن خلال البرامج الانتخابية للمرشحين ترامب وهيلاري، فبينما ترامب يمثل التخفيف من «عالمية أمريكا» وإدارة الأزمة العالمية عبر الانكفاء، فإن هيلاري كانت تمثل الأطراف التي ترى أن عصر العولمة الأمريكية لم ينته بعد، ويمكن إطالته قليلاً بمزيد من العنف، ومزيد من الدَّين، وكانت تريد استمرار ومد الصراع العسكري، لعل المعركة العالمية العسكرية تستطيع أن تعود بنتيجة ما، فتضعف الخصوم أكثر وتجعل الانكفاء الأمريكي أقل خسارة، ولكن الاتجاه الأمريكي الذي يريد أن يعتمد على إيقاد المعركة الاقتصادية العالمية، وتحصين أمريكا قدر الإمكان يبدو أنه المنتصر.
السلاحان الأخيران: التجارة والمال
المعركة التجارية والمالية التي يقودها ترامب، ستضر إلى حد بعيد بالاقتصاد الأمريكي، وتكتنف على مخاطر... ولكن على ما يبدو فإن هذا التوجه هو المسار الاضطراري المؤلم.
من الواضح للولايات المتحدة، أن اتجاهات التجارة العالمية أصبحت محددة صينياً، وأصبحت معالمها مرسومة في الأجل المتوسط بمشروع الربط الكبير بين آسيا وأوروبا وحتى إفريقيا عبر مشروع طريق الحرير. ومن الواضح أيضاً أن الدولار لن يستطيع الاستمرار كعملة التمويل والتجارة العالميتين، والأهم: أن أمريكا تعي تماماً أن الأحادية الأمريكية انتهت، وعلى الولايات المتحدة أن تثبت قدراتها وثرواتها الفعلية في مواجهة عالم متعدد الأقطاب.
ولتمتلك الوقت الكافي والقوة التفاوضية، عليها أن تستخدم أهم أدواتها العالمية، أولاً: موقعها التجاري، وقدرتها على إثارة الاضطراب في منظومة التجارة العالمية المتراجعة والمتبدلة، وهو ما يفسر سلوك الحمائية الأمريكية الحالي الذي ظهر أيضاً قبل الحربين العالميتين عندما رفعت التعرفة 50% قبل الحرب الأولى، و48% قبل أزمة الكساد الكبير.
وثانياً موقعها المالي، وتحديداً عبر الدَّين الأمريكي العالمي، والذي مدت عبره قوى المال الأمريكية أذرعها الإقراضية للمشاركة في الثروات العالمية، وأصبحت الديون المهددة عبر رفع أسعار الفائدة هي ديون الشركات غير المالية في الدول الصاعدة، ما يعني موجة تمركز بالملكية ستنجم عن إفلاساتها. ورغم أن الحكومة الأمريكية هي المَدين الأكبر عالمياً، فإن إيقاد أزمة الديون وبشكل تدريجي عبر الرفع التدريجي لأسعار الفائدة، قد يعني عملية مقاصة كبرى عالمية عقب الامتناع عن السداد، سينجم عنها إعادة تموضع للثروة الحقيقية عبر العالم كل حسب قدراته الفعلية...

الإدارة الأمريكية تجري بالحمائية التجارية، وبرفع أسعار الفائدة التدريجي، عملية هجومية من أجل التفاوض. وهي تعلم بأن المواقع الاقتصادية العالمية القادمة ستتحدد على أساس ميزان القوى العالمي: الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والبشرية، وكلها أصبحت موزعة عالمياً، ولم تعد أمريكية القيادة. وتعلم أيضاً: أن الهجوم الأمريكي سيسرع من وتيرة تحالفات الآخرين وعزل أمريكا، ولكن الولايات المتحدة تريد أن تحمي أمريكا، لأنها تعي حجم الانشطار الذي قد يعاني منه تراجع غير مدروس لحكم شديد المركزية كالحكم الأمريكي، وتريد أن تحافظ على القوة الأمريكية كدولة واحدة بثروات وتصنيع وموارد هامة تستطيع أن تأخذ موقعها ضمن خريطة القوى العالمية الجديدة.