«سحب البساط الدولاري»...
ليلى نصر ليلى نصر

«سحب البساط الدولاري»...

مع بداية الشهر القادم، سيستطيع مصدرو النفط الخام العالمي أن يصدروا للصين نفطاً ويحصلوا على الذهب... أو بالأحرى أن يحصلوا على اليوان الصيني، الذي يستطيعون تبديله إن أرادوا بالذهب في كل من سوقي هونغ كونغ وشانغهاي.

أينما بحثت عن هذا الخبر الذي يبدو بسيطاً، فإنك سترى عناوين مثل: «مهاجمة الدولار- اللادولرة- نهاية البترودولار» وغيرها.

فما الذي فعلته الصين؟!
أصدرت الصين أوراقاً مالية رسمية، وهي عبارة عن عقود مستقبلية لشراء النفط ستصدر في سوق العقود الآجلة في شنغهاي. وهذا عملياً سيُدخل على سوق تسعير النفط لاعباً ثالثاً بعد أن كانت الغالبية العظمى من صفقات شراء النفط تسعر في سوقي غرب تكساس الوسيط، وسوق برنت البريطاني.
ولكن: هل التسعير فقط هو ما يهدد الدولار؟! بالتأكيد لا، فالمسألة أبعد من هذا...
تعني الخطوة الصينية عملياً أن سوق النفط الخام العالمي وآلاف مليارات الدولارات التي تدفع سنوياً في استيراده، ستتقلص، وستصبح كتلة هامة من الدولار المستخدم في تداول النفط عبر العالم فائضة، وتبحث عن زبائن آخرين ليتداولوها، بعد أن استغنى أكبر مستورد للنفط الخام عبر العالم - أي الصين- عن تبادل النفط بالدولار، أي نسبة 17.3% من سوق النفط الخام العالمي ستعمل دون الوسيط الدولاري.
ستتيح هذه العملية لمصدري النفط إلى الصين المعاقبين غربياً مثل روسيا وإيران، بأن يتجنبوا الدولار كوسيط وعملة تصدير، ويستخدموا اليوان مباشرة والدولتين تشكلان نسبة 20% من مصادر النفط الصينية، بينما ستتحفز الدول الأخرى مثل دول مجلس التعاون الخليجي التي تؤمِّن للصين نسبة 27% من حاجاتها النفطية كي تصدر نفطها وتقبض باليوان طالما أنه قابل للاستبدال بالذهب.
وتفتح هذه العملية الباب واسعاً أمام إنهاء ما بدأ منذ السبعينيات بربط النفط بالدولار، بعد أن أصبحت منظمة أوبك تسعر النفط بالدولار، وأصبحت كل عملية شراء أو بيع للنفط ومشتقاته عالمياً تتضمن عوائد مباشرة لأوراق الدولار المطبوعة في البنك الفيدرالي الأمريكي التي تأخذ قيمتها من هيمنتها على عملية تبادل البضائع عالمياً: النفط وغيره...
ولكن هل تهدد الخطوة الصينية فقط دور الدولار في سوق النفط العالمي؟!
بالطبع لا، بل إن هذه الخطوة تعتبر نقلة نوعية في معركة مفتوحة منذ مطلع القرن الحالي، حيث سبقها إعلان واضح لمجموعة دول البريكس بضرورة التبادل بالعملات المحلية، أو البحث عن عملات تبادل أخرى عدا عن الدولار، وسبقها سعي الصين الناجح إلى فرض عملتها كواحدة من عملات الاحتياط العالمي حيث نسبة 34% من البنوك المركزية عبر العالم أصبحت تفتح أرصدة باليوان الصيني، أي تستطيع أن تتبادل به مع الصين مباشرة..
أي أن المعركة مفتوحة مع الدولار على اعتباره عملية التبادل العالمية، أو باعتباره سلعة تلعب دور (المال العالمي)، أو (المعادل العام) عالمياً، فالقوى الصاعدة تريد وضوحاً أن تزيح الدولار كوسيط في تعاملاتها الإقليمية أولياً والدولية ثانياً..

الدولار أداة نهب عالمية
ولكن ألا تحتاج هذه الدول إلى وسيط عالمي، وإلى عملة تداول عالمية؟!
بالطبع تحتاج... كما يحتاج مجمل الاقتصاد العالمي لمعادل عام يتيح التبادل العالمي للسلع ولرأس المال وللعمل أيضاً. ولكن القوى الصاعدة تحتاج كما يحتاج كل الاقتصاد العالمي إلى التخلص من المعادل العام الحالي، وهو الدولار ومنظومته المالية التي تحولت إلى أكبر أداة استغلال عالمياً، منذ أن حولت الأوليغارشية المالية المهيمنة عالمياً، الدولار إلى سلعة هيمنة عالمية.
فالدولار هو عملة التبادل العالمي منذ عام 1947 والاتفاق في  بريتون وودز على منظومة النقد العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي توجت الدولار في ظل قوة الاقتصاد الأمريكي، وكتلة الذهب الموجودة لدى الولايات المتحدة، وحاجة الاقتصاد العالمي في حينها إلى إعادة تقسيم العمل دولياً، وإعادة تقاسم مناطق النفوذ، عبر تصدير رأس المال في ظل انتعاش ما بعد الحرب، والتزم الامريكيون حتى السبعينيات بمبادلة الدولار بالذهب، ثم تخلوا عن هذا وأطلقوا المطبعة الأمريكية لتضخ الدولار المحمي بالطلب عليه والحاجة العالمية لعملة تداول قوية ومحمية بوزن كالوزن الاقتصادي والعسكري والسياسي للولايات المتحدة الامريكية. وتمادت هذه العملية في الثمانينيات وفي التسعينيات مع هيمنة القطب الواحد عالمياً، وأصبحت الأوليغارشية المالية في الفيدرالي الأمريكي تتحكم بعملية طباعة النقود الوطنية عبر العالم وتربطها باحتياطيات العملات الصعبة وبمقدمتها الدولار، وأصبح إنتاج المال من المال هو مصدر الربح الاستثنائي فمن تكلفة لورقة الدولار 4 سنت يملك الفيدرالي ورقة قيمتها 100 دولار، حتى ظن البعض بأن هذه السلعة (الدولار الأخضر) خارجة عن قوانين العرض والطلب، وبدأ توسع وظهور المشتقات المالية وتعمق ربط منظومة الاقتصاد العالمي بالمنظومة المالية والمصرفية والتي مركزها في واشنطن.

القوى الصاعدة وأتاوات الدولار
عملياً تحول هذا المعادل العام إلى عبء على الجميع، وتحديداً لدى القوى الاقتصادية الصاعدة ودول الأطراف عموماً التي تتحمل استغلال مضاعف، من قوانين التبادل اللامتكافئ التي تجعل الناتج ينتقل من الأطراف إلى المركز «ولا مجال لتفصيلها جميعاً هنا» مضافاً إليها «ريع الدولار»، أي أن كل نشاط اقتصادي عالمي أو بيني تقوم به، بتجارة البضائع أو حركة رؤوس الأموال أو الاقتراض أو... إلخ عليها أن تدفع أتاوة لمنظومة المال العالمية التي تطبع الدولار مقابله، لأنها ملزمة بالتعامل بالدولار كوسيط عالمي، وملزمة بشراء الدولار لتقوم بهذه العمليات كلها!
وفي هذا الإلزام حصة منهوبة من الدخل المنتج في هذه الدول، ومنقولة إلى المركز المالي الغربي المهيمن على وساطة التداول العالمي.
ولكن الأوليغارشية المالية الفاسدة والمهيمنة عالمياً تعلم علم اليقين بأن هذه القوى الاقتصادية الصاعدة ستسعى للتخلص من هذا الاستغلال المالي، وتحاول أن تطور علاقات التعاون وأدوات التبادل المالي المحلي، وتعلم كذلك بأن كل خطوة أو إعلان يحاول أن يستبدل الدولار بأدوات أخرى، يهدد بانكشاف كتلة الدولار والمشتقات المالية الفائضة عالمياً، أي أن جزءاً هاماً منها قد يصبح أوراقاً لا تجد من يطلبها فتفقد قيمتها، وهذا قد يعرِّض سوق الدولار والمشتقات المالية العالمية لأزمة عاصفة من انخفاض القيم والانهيارات، فالفقاعة المستمرة بالتضخم تثقبها الصين بسحب سوق النفط ومبادلته باليوان الذهبي.
الصينيون يعون تماماً أنهم بهذه الضربة القوية المتمثلة بمبادلة النفط باليوان وبالذهب، يعلنون نهاية «مرحلة التحضير» المنطلقة منذ بداية الألفية لإزاحة الدولار، وبداية «مرحلة الفعل»... البساط يسحب من تحت الدولار العالمي، وسيتراجع الربح الاستثنائي المنهوب عبر الدولار من الإنتاج العالمي بحدة، والذي كان يتدفق على نخبة الامبريالية العالمية في واشنطن من كل عمليات التبادل التي كانت تستخدم الدولار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
827