تمويل الإعمار  في عالم التمويل الاستثماري المتغير..

تمويل الإعمار في عالم التمويل الاستثماري المتغير..

لدى البعض انطباعات سائدة بأن إعمار سورية سيكون كالإعمار اللبناني أو الأفغاني أو غيره من نماذج الإعمار الفاشلة في الدول النامية، بينما الحقائق تقول: إن أزمتنا وما بعدها تأتي في ظرف دولي استثنائي، هذا الظرف يتيح فرصاً جديّة لبناء نموذج اقتصادي يستطيع تأمين نقلة في النمو الاقتصادي، واستمرارية في النمو والتنمية بعد توقف الحرب...

إذا ما أردنا أن نحدد المتغيرات الهامة التي تعبر عن هذا الظرف الجديد، فإن مسألة إمكانات التمويل الدولي لإعادة الإعمار ونوعها وكلفها هي مسألة عالية الأهمية في هذا السياق. فيما يلي نقدم خلاصة من الأبحاث العديدة التي تدرس عمليات تمويل التنمية الاقتصادية الحقيقية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي عنوانها الأساس: التمويل ضمن علاقات جنوب- جنوب، ولنكن محددين أكثر: التمويل التنموي للصين في دول الجنوب النامية، التي بقيت لفترة طويلة محرومة من إمكانات نقل التكنولوجيا أو تمويل المشاريع الكبرى التي تحقق نقلات نوعية في مستويات الإنتاج.

من الحرب وحتى عام 2000

تصنف الدراسات الاقتصادية التمويل الإنمائي للدول النامية على أنه ذو مرحلتين، الأولى: بعد الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى المرحلة الحالية المستمرة منذ عام 2005 تقريباً.

فعالم ما بعد الحرب له سمتان: الأولى: وجود الاتحاد السوفييتي، ومخصصاته التنموية الكبرى لدول الجنوب، أو الدول التي كانت ترمي عنها عبء الاستعمار القديم، وربما يكون خير مثال هو مشروع سد الفرات، والسد العالي في مصر، كمشاريع أجرت نقلة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي في تلك الدول وغيرها.

ولكن الأمر لم يكن يقتصر على الاتحاد السوفييتي، فالمنظومة الغربية بمؤسساتها الدولية المتشكلة في حينها: البنك الدولي، وصندوق النقد وغيرها، كانت أيضاً مساهماً في تمويل مشاريع هامة في دول العالم النامي، كامتداد لخطة مارشال الأمريكية لإعمار أوروبا. مدفوعة بمعدل الربح المرتفع، بعد التدمير الكبير خلال الحرب، وبضرورة إعادة تشكيل أدوات الاستعمار الحديث، في العلاقة مع دول الجنوب، والشرق، أو دول الأطراف عموماً.

فخلال الفترة من عام 1946- 1961 كانت أكثر من 75% من تمويل البنك الدولي قد توجه إلى النقل والكهرباء، بينما هذه النسبة اليوم قد انتقلت إلى مجالات أخرى أغلبها في القطاعات الخدمية، والمساعدات الاجتماعية، مقابل تمويل هامشي ونوعي للصناعة والبنى التحتية.

وبدأت من بعدها سياسة التمويل الإنمائي، من المركز الشمالي الغربي إلى دول الأطراف، لتأخذ طابع المساعدات والمنح، ومواجهة الفقر، المرهونة بوصفات التغيير الهيكلي، والاشتراطات في السياسة الاقتصادية، حتى أصبحت في عام 1989 بنود إجماع واشنطن المتعلقة بتقليص دور الدولة، وزيادة حرية تنقل رؤوس الأموال والتجارة، الأساس لسياسة المؤسسات المالية الدولية التنموية، ومع بدء الألفية يتعمق التركيز على المساعدات المشروطة في قطاعات الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والمياه وغيرها، مربوطاً بالأهداف الألفية التنموية لمواجهة الفقر.

فعلى سبيل المثال: اشترط البنك الدولي ليقرض إدارة مدينة ريو في البرازيل قرضاً خدمياً، أن تفرض رسوماً على مستخدمي المياه، وأن تزيد طرح سندات لملكيات أراضي البلدية، أي، بيع الأراضي العامة، وبصفحتين من الشروط التي وقعت عليها الحكومة المحلية للمدينة، لتحصل على القرض على دفعتين مشروطتين بتنفيذ التعهدات، وهناك من ضمن الكثير، مثال مصر الحالي حيث قرض الصندوق ارتهن بتحرير سعر الصرف، وتقليص الإنفاق الحكومي الاجتماعي، وغيرها من الشروط، التي تنفذها مصر تباعاً لتحصل على دفعات القرض.

توجهت (القروض التنموية) الغربية إلى الأطراف منذ السبعينيات لتواجه الفقر، عبر توسيع الدين، وتجنب القطاعات التي تولد النمو، والتركيز على الإنفاق الاستهلاكي الخدمي، بينما الحقائق تقول: إن أهم الدول التي استطاعت أن تقلص عدد فقرائها وتحقق تقدم جدي على مؤشرات الألفية، هي الدول التي سارت عكس هذا المسار، أي: التي وسعت استثمارها الكبير في الصناعة والبنى التحتية كالصين والهند، أو التي واجهت النيوليبرالية بدور هام للدولة كفنزويلا.

الألفية الجديدة والظهور الصيني كماً ونوعاً

بين 2004 و2013 ضاعفت الصين استثماراتها الخارجية 13.7 مرة، من 45 مليار دولار إلى 613 مليار دولار. واعتباراً من عام 2010 أصبح مجموع التمويل السنوي للدول النامية، من البنكين الحكوميين الصينين: بنك التنمية الصيني CDB، وبنك الصين للصادرات والواردات ((China Exim، أكبر كماً من تمويل البنك الدولي لهذه الدول، في 2014 تم الإعلان عن إطلاق بنك بريكس للتنمية، وبنك آسيا للاستثمار في البنى التحتية، وانتقل المشروع نقلة نوعية من اتجاه كمي واضح المعالم إلى هدف معلن، ومؤسسات جديدة تتبلور.

وإذا ما أخذنا مناطق أساسية في دول الأطراف: آسيا الوسطى- الشرق الأوسط- إفريقيا- أمريكا اللاتينية، فإننا نلاحظ بأن الصين ضاعفت علاقاتها التجارية مع آسيا الوسطى عشرة أضعاف بين 2005-2014، وزادت استثماراتها في الشرق الأوسط بين 2005-2010 من 5 مليار دولار إلى 13 مليار دولار، بينما ارتفعت الاستثمارات الصينية في إفريقيا من 1 مليار دولار في 2004 وصولاً إلى 23 مليار دولار في 2013، وأخيراً في أميركا اللاتينية فقد انتقلت الاستثمارات من 5 مليار دولار في 2007، وصولاً إلى 20 مليار دولار في 2016.

ولكن ينبغي الانتباه، أن الفارق الأساسي ليس بالكم بل في النوع الاستثماري، فبنك التنمية الصيني خلال الفترة بين 2006-2014 خصص مبلغ إقراض إجمالي: 1490 مليار دولار للبنى التحتية والصناعة، وهذا الرقم يشكل نسبة 90% من قيمة أصوله في عام 2014 البالغة: 1663 مليار دولار، وهذا الاستثمار خارجي وداخلي، ولكنه ضاعف استثماره الخارجي 7 مرات خلال 8 سنوات.

والبنك الذي يعتبر منذ عام 2008 من أكبر بنوك التنمية العالمية، ومحركاً أساسياً للتمويل الصيني يعلن بوضوح عن تغيير أولويات التمويل الاستثماري العالمي، حيث إن أهدافه  التمويلية الأساسية لا تنسجم مع الاتجاه الغربي لتمويل القطاعات الخدمية بل تركز على: البنى التحتية في النقل والاتصالات والطيران، والطاقة في النفط والغاز والطاقة الجديدة وبناها التحتية، وقطاعات المعادن، والصناعات الرئيسة مثل: الآلات والحديد والصلب والبناء، وفي القطاعات الناشئة كالالكترونيات الدقيقة، والألياف الزجاجية والمحركات وغيرها.

ما يعني أن الجزء الأكبر والمتوسع من أموال الاستثمار العالمي، آتية من الصين، ونحو قطاعات البنى التحتية والصناعة والطاقة.

(سر جاذبية الاستثمار الصيني)

تستطيع أن تجد الكثير الكثير من اعتراضات الصحف الغربية على (إغراق الصين للسوق العالمية بالتمويل الرخيص)، وهو ما تدققه وتبحثه الكثير من الأبحاث الاقتصادية العالمية.

فحتى معهد برجينسكي الأميركي، يقول في بحثه لتنامي دور الصين في الشرق الأوسط والتحديات الأمريكية في هذا السياق بأن: (الصين تسعى ببساطة إلى تحقيق المصالح الاقتصادية الوطنية، وتعتبر الدول الأخرى شركاء)، والشعار الصيني المرفوع في عملياتها التمويلية: (الفائدة للطرفين)، ولكن الشعارات ليست المحدد للجاذبية للشراكة مع الاستثمار الصيني، بل المسألة لها محددات سياسية واقتصادية أدق.

أهمها: ما أعلنته الصين في إجماع بكين، الموضوع لمواجهة إجماع واشنطن، والذي تطبقه بمسألة عدم وضع اشتراطات للسياسة الاقتصادية مقابل التمويل، الاشتراط الأساسي هو دفع الأقساط والفوائد، وفي حالات الاستثمار في البنى التحتية والصناعة، تشترط أن يتم شراء معدات التنفيذ من الصين، لتدعم القطاعات الصناعية الرائدة.

والمسألة الأخرى، ترتبط بتركيز الصين على علاقات واتفاقات: دولة- دولة، أي سعيها إلى توقيع الاتفاقات مع الحكومات، بينما كما تقول دراسة معهد برجينسكي: تسعى الولايات المتحدة إلى التعاقد مع النخب من رجال الأعمال، والمجتمع المدني.

إلا أن كل ما سبق لا يشكل الحافز الأساسي، بل ينبغي التركيز على ما تقدمه الصين، أي: نوع التمويل، وكلفه.

فالمحدد الأساسي هو استعداد الصين لتمويل البنى التحتية والصناعة والطاقة، بما يتضمنه من نقل للتكنولوجيا وإن بشكل غير مباشر، ومن إحداث نقلات في تطوير القوى المنتجة في الدول النامية، المسألة التي تعتبر محدداً أساسياً لرفع عتبة النمو الاقتصادي، وتحقيق نقلات نوعية، كما أن مختلف الدول التي تعاني من عزلة دولية، تجد في المرونة الصينية ملاذاً، حيث لا اعتبارات سياسية صارمة للصينيين ليقوموا بعملية حظر التمويل عن إحدى الدول نتيجة سياساتها.

يأتي بعد مسألة نوع التمويل، كلفه، فالتمويل الصيني الرخيص موجود فعلاً، وهو تحديداً في اتفاقيات القروض من دولة- لدولة، حيث العديد من حالات تمويل مشاريع كبرى للبنى التحتية بمعدل فائدة يقارب 1-3%، ولفترات 15-20 سنة، حيث إن الحكومة الصينية تقدم مساعدات ضمن اتفاقيات مع بعض الدول بشكل تخفيضات في كلف الاستثمار، وتحصل البنوك الصينية المقرضة على الفرق من الحكومة الصينية مباشرة.

ولكن الصورة الشائعة حول الكلف المنخفضة غير دقيقة تماماً، ففوائد بنك التنمية الصيني أعلى من فوائد البنك الدولي، وبالمقابل فوائد بنك الصادرات والواردات الصيني أخفض بدرجات، إلا أن مسألة أخرى تلعب دوراً هاماً في تخفيض التكاليف، وهي رسوم المخاطر. حيث تفرض المنظمات الدولية الغربية رسوماً إضافية تختلف من دولة لأخرى، حسب تصنيف مخاطر الاستثمار فيها، المبني على تصنيف دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، والتي تبلغ 14.4% من التكلفة في بعض الحالات، ويقدر الاقتصاديون بأن التصنيف الصيني للمخاطر أقل من التصنيف الغربي بنسبة 6%، وهذه تخفض تكاليف الإقراض بنسبة 30-50% تقريباً.

كما أن المرونة الصينية في طرق الدفع تعتبر عامل جذب آخر، وأهم الظواهر هي: القروض مقابل النفط، وغيرها مقابل بضائع، والتي تشكل نسبة النصف تقريباً من طرق تسديد القروض الصينية في أميركا اللاتينية، وتحديداً مع البرازيل، وفنزويلا، والإكوادور، وضمن القروض مقابل النفط، هناك أساليب دفع متعددة، إلا أنها جميعاً تقوم على تسعير النفط الوارد كماً بالأسعار العالمية الراهنة. حيث تقوم الصين بدفع قيمته في بعض الحالات باليوان، وتحولها إلى حسابات بنوكها المقرضة.

كيف نترجم الظرف الدولي لفرصة سورية؟!

الظرف الاقتصادي الدولي يتيح الوصول إلى تمويل نوعي لقطاعات استثمارية هامة تحقق نقلات في البنى التحتية والطاقة والصناعة، بتكاليف أقل من كلف الاستثمار والتمويل الغربي، ومع إمكانيات الحصول على تكاليف منخفضة بشكل استثنائي عبر اتفاقات: دولة- دولة.

ورغم أن تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية، وانتقالها إلى مراكز النمو الاقتصادي المرتفع في الدول الصاعدة والصين تحديداً، ومنطقية انتقال تأثيراتها على حجم هذا التمويل، إلا أن الخطط الاستراتيجية لمشروع الحزام والطريق الصيني، ولمؤسسات بريكس التنموية التي بدأت منذ عام 2013، تعكس أن هذا الاتجاه استراتيجي وتراه القوى الصاعدة حتى في ضوء الأزمة الاقتصادية، بل ربما في سياق مواجهتها.

إلّا أن ما سبق كله، يجب ألا يعني للسوريين إلا التقاط الفرصة التمويلية، ولا يلغي الضرورة الموضوعية لمعرفة أن هذا التمويل ليس مجانياً، ويجب أن يرتبط بالخطط الاقتصادية الكبرى، وبالنسب الاقتصادية الضرورية. أي: إنه من الضروري التفكير العميق بوجهة التمويل المطلوب، والتي ترفع العائدية الاقتصادية للاقتصاد السوري، وتحقق نقلات في معدل النمو الاقتصادي، والأهم أنها تضمن عودة عوائد هامة إلى جهاز الدولة، ليتمكن من السداد أولاً، وليتمكن ثانياً من تمويل الاستثمار محلياً وهو الأهم. 

يجب أن نجيب مسبقاً: ما التمويل الذي سنحتاجه، وأين، وكيف نضمن أن يرفع معدلات النمو بشكل قياسي، وهل يكفي للسداد وتمويل الاستثمارات الأخرى؟!

الظرف الاقتصادي الدولي يشير، أنه من المفترض أن يكون لجهاز الدولة ومؤسساته الاقتصادية الدور المحوري في توقيع الاتفاقيات والاستثمار في القطاعات التي تحقق أعلى نمو، لأنها أقل كلفة، ويشير أيضاً إلى أن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والخدمية الكبرى بتكنولوجيا متقدمة، وبما يضمن توليد النمو، هو أمر متاح. فالتمويل الغربي بشروط فرض منظومته الليبرالية، وبكلفه المرتفعة، وبتركيزه على قطاعات المساعدات والقطاعات الخدمية، وعلى مؤسسات المجتمع المدني والنخب لا على الدولة، هذا بمجموعه يصبح تدريجياً من الماضي.

وتبقى مهمة تعبئة الموارد المحلية، والحصول على تعويضات لا مساعدات دولية في المرحلة اللاحقة هي مصادر التمويل الأهم، إلا أن التبدل الذي يطال اتجاهات الاستثمار العالمي، يتيح للسوريين فرصة رفض العروض الغربية التمويلية التي تعرقل النمو الحقيقي، والحصول على مكاسب نوعية مما تراكم لدى القوى الصاعدة من موارد ومعارف، كانت محصورة في العالم الغربي سابقاً.

 

هوامش: 

WORLD RESOURCES INSTITUTE

China – Latin America Database

The New Banks in Town: Chinese Finance in Latin America.

RECONNECTING ASIA

CSIS- BREZINSKI INSTITUTE ON GEOSTRATEGY.

90%

بين 2006- 2014 بلغت استثمارات بنك التنمية الصيني في البنى التحتية والطاقة والصناعة: 1490 مليار دولار، ونسبة 90% من مجموع أصوله في عام 2014.

30%

تنخفض تكاليف التمويل الاستثمار الصيني عن الغربي بنسبة تتراوح بين 30-50% نتيجة تخفيض تكاليف المخاطر التي يفرضها الغرب رسوماً تمويلية على الدول.

معلومات إضافية

العدد رقم:
808