د. منير الحمش لـ«قاسيون»: السياسات الاقتصادية - الاجتماعية هي سبب ارتفاع معدلات الفقر.. وهذا لم يعد مقبولاً

الارتفاع سمة الاقتصاد السوري، لكن الذي ارتفع اليوم ليس معدل النمو كما تروج الحكومة دائماً، بل ارتفع خط الفقر الأدنى من 11,4% في العام 2004 ليصل إلى 12,3 في العام 2007 حسب أرقام المكتب المركزي للإحصاء، كما ارتفع معدل البطالة من 8,2% في عام 2006 ليصل إلى 9,2 في العام 2008،

 وهذا يترافق بشكل عام مع زيادة في معدلات الفقر على الرغم من أن الخطة الخمسية العاشرة هدفت وتهدف إلى تخفيض معدلات الفقر، ولتسليط الضوء على الارتفاعات في غير مكانها أجرت «قاسيون» اللقاء التالي مع الدكتور منير الحمش بغية معرفة أسباب وحقيقة ما يشهده الواقع الاقتصادي السوري من مجريات وما سيليها من تداعيات وانعكاسات.
 
• رغم إعلان الخطة الخمسية العاشرة استهدافها معدلات الفقر في البلد، ما هي برأيك أسباب استمرار ارتفاع معدلاته في سورية؟
لتحصل على الجواب عليك أن تبحث في السياسات الاقتصادية والتجارية التي يتبعها الفريق الاقتصادي، فالجواب هو في هذه السياسات الاقتصادية. هناك محاولة لتحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد حر (اقتصاد سوق)، وأمام هذا الواقع من الطبيعي أن تتراجع معدلات النمو لا أن تزداد، فأرقام النمو المعلنة من الفريق الاقتصادي غير دقيقة وغير صحيحة، وهذا يشير له أيضاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عندما أعلنا أن معدل النمو هذا العام لن يتجاوز 3.2% وفي أحسن الأحوال 3.7%، في حين أن نسب النمو حسب التصريحات الحكومية مفتوحة وتتجاوز 5 - 6%. وإذا أردنا تصديق منطقهم وافتراض معدلات النمو كما يقولون تزداد، عندها لابد من السؤال: من المستفيد من هذا النمو؟ فالجواب: هو أن الطبقة المستفيدة هي الفئة الجديدة من رجال الأعمال التي سُمح لها أن تعمل بلا قيود في مفاصل الاقتصاد الوطني، أما مجموع أفراد الشعب فلم يستفد، وهم الغالبية العظمى وأصحاب الدخل المحدود والفقراء، وحتى الطبقة الوسطى سحقت وبدأت تشعر بالمرارة نتيجة التدهور الحاصل في مستويات المعيشة، لذلك أنا أميل إلى القول إن معدلات الفقر تزداد وترتفع نتيجة الممارسات الطائشة وغير المدروسة على طريق تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد السوق ضمن ما يدعى الحريات الثلاث التي أعلنها رئيس الفريق الاقتصادي في بداية أعمال جمعية العلوم الاقتصادية وهي: تبادل السلع (إطلاق حرية التجارة)، حرية انتقال الأموال الخطيرة وحرية انتقال النشاط الاقتصادي بشكل عام، هذه الحريات فعلت ما فعلته في الولايات المتحدة وخلقت الأزمة المالية أولاً ثم الاقتصادية في جميع أرجاء العالم. فإطلاق حرية العمل دون ضوابط في السوق تحت وهم أن آليات السوق تستطيع بعفوية أن تخصص الموارد وتحدد الأسعار بشكل عادل، وتستطيع تحقيق النشاط الاقتصادي الحر الذي يؤدي إلى الازدهار، هذه المقولات الخاطئة هي التي أدت إلى تفاقم الفقر في البلاد.

• يحاول الفريق الاقتصادي تصوير هذا التراجع أو كما يسموه العثرات بفعل الحركة الانتقالية من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، فما رأيك هنا، وهل يشكل هذا أحد الأسباب الحقيقية للتراجع؟
أولاً أنا أرفض أن يقال عن المرحلة السابقة إنها مرحلة اشتراكية، لأنه لم تكن هناك اشتراكية في البلاد أصلاً ليتم تحويلها، حيث إنه كان هناك تدخل حكومي ونشاط للقطاع العام، وكان هناك رأسمالية دولة، وتخطيط تأشيري، لكن لم يكن هناك تخطيط مركزي، ولم يكن هناك علاقات سوق اشتراكية، إنما بقيت علاقات السوق رأسمالية وبقي القطاع الخاص هو الذي يتحكم بمسار التبادل السلعي في الداخل، إلى أن أحدثت المؤسسة العامة الاستهلاكية كتاجر جملة بهدف ضبط عملية السوق وتدفق السلع، لكن في النهاية قضوا على هذه المؤسسة وانهوها من حيث المهام الحقيقية التي أحدثت من أجلها وهي ممارسة تجارة الجملة، فكما هو معلوم أن الذي يسيطر على السوق هو تاجر الجملة، وهو الذي يحدد تدفق السلع وكمياتها وزمنها ومواصفاتها، فالتوجه كان عند إحداث المؤسسة العامة الاستهلاكية هو أن تحدث هذا التحول في السوق المحلية، وهي قامت بدور عظيم في أيام خرب 1983، لكن مصالح قوى معينة تضررت نتيجة هذا الدور أدى إلى تقليص دورها.

• هل معدلات البطالة وارتفاعها مرتبط بارتفاع نسبة الفقر؟
الحكومة تحاول أن تعالج القضايا الاقتصادية بالقطعة وبشكل جزئي، ففي كل مرة تطرح قضية بمعزل عن القضايا الأخرى، بينما القضايا الاقتصادية تمثل عموماً كلاً مترابطاً، هناك بطالة إذاً هناك فقر، والبطالة نتيجة لتقلص الاستثمار، فالحكومة مثلاً وضعت فرضية أن القطاع العام خلال الخطة الخمسية العاشرة ينسحب من الاستثمار فتتدفق استثمارات القطاع الخاص، وبما أن استثمارات القطاع الخاص المحلي لا تكفي لذلك قرروا الانفراج والاتجاه بالاقتصاد الحر، وعندها تنهال الاستثمارات الخارجية علينا، وهذه كانت أكبر المصائب عندما تم استجرار هذه الاستثمارات بالشروط التي يريدونها ولم نجد حتى الآن استثماراً إنتاجياً يعتد به، بل إن الاستثمار العقاري خلق مشاكل السكن وارتفاع الأسعار والمضاربات بالأراضي، والأهم من هذا كله الاعتداء على أملاك الدولة، فإذا طرحت القضايا بشكل غير دقيق وغير صحيح ستؤدي حتماً إلى نتائج غير دقيقة وغير صحيحة.

• ألمحت الحكومة إلى أنها سترفع الرواتب بنسبة 35% حتى نهاية الخطة الخمسية العاشرة 2010، فهل هناك أسس واقعية تم الاستناد إليها لإقرار هذه الزيادة؟
هذا الرقم وهذه الزيادة وضعت في الخطة الخمسية العاشرة كباقي أرقام الخطة، وهو كغيره من الأرقام غير دقيق وغير مبني على أسس علمية، فأنا أعرف أن الزيادة في الأجور يجب أن ترتبط بجدول الزيادة في الأسعار، فربط الأجر بمستوى المعيشة لم يحصل حتى الآن، بينما في البلدان النامية جميعاً تقريباً، وحتى البلدان المجاورة يتم ربط جدول زيادة الرواتب مع زيادة مستوى المعيشة، وبعض الشركات الأجنبية العاملة في سورية لديها جدول يربط مستوى الأسعار بالأجور، ويمكن اللجوء إلى هذا الجدول في القطاع العام بالتتابع، كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة.

* هل زيادة 35% إذا ما تحققت قادرة على تغطية ارتفاع الأسعار منذ أيار 2008؟
 الحقيقة إن زيادة 35% التي أعلنها رئيس الوزراء لا يمكن معرفة تأثيراتها، لأن التوجهات السياسية الاقتصادية لا يمكن التحكم بها ومعرفة نتائجها، ولكن المؤكد أنه لو تمت هذه الزيادة اليوم، فلن يكون هذا المبلغ كافياً مقابل زيادة الأسعار الجنونية.

• ارتفعت الرواتب منذ 2001 حوالي 35% بينما ارتفعت الأسعار 70% بشكل وسطي بالنسبة للسلة الغذائية، فهل هذا مقبول اجتماعياً واقتصادياً ووطنياً؟
ـ هذا غير مقبول لا اقتصادياً ولا اجتماعيا ولا حتى أمنياً، لأن النظر إلى السياسات الاقتصادية بمجملها يجب أن تتناسب مع الآثار الاجتماعية، اليوم كما يقال اقتصاد السوق اجتماعي أي أن هناك مكونين للاقتصاد: الأول السوق بآلياتها مشترين وبائعين ومنتجين ومستهلكين، والمكون الثاني المكون الاجتماعي، وهو الضمان الاجتماعي والضمان الصحي والتعلم المجاني، وتهيئة الظروف المناسبة لقيام المواطن بواجباته بدافع وطني هذا الأمر يجب ألا يغيب عن البال، لأنه عندما قيل في أوربا قبل ثلاث سنوات أو أربع: لماذا عاشت أوربا بعض الصعوبات الاقتصادية؟! كان الجواب: نتيجة تصاعد مسؤولياتها بفعل صندوق الضمان الصحي والشيخوخة وراتب البطالة التي أدت إلى إفلاس هذه الصناديق، وعندما تم الطلب بتخفيض الالتزامات الاجتماعية السابقة، فكان الجواب: إذا خفضنا هذه الالتزامات يعني فتح المجال لتهديد السلم الاجتماعي، لأن هذه الضمانات هي أسس السلم الاجتماعي، بمعنى أن هذه الصناديق تضمن عدم وجود فروقات في مستويات المعيشة والدخول والثروة، لأن التفاوت في الدخول يؤدي لتفاوت في الحياة الاجتماعية، وبالتالي سيكون له انعكاسه على الشعور بالانتماء للمجتمع، فهذه النقطة يبدو أنها غائبة عن الفريق الاقتصادي، فالسلم الاجتماعي نحن بأشد الحاجة للحفاظ عليه، بل نحن مهددون أمنياً بسببه. والدوائر المسؤولة في سورية لم تستوعب بعد خطورة منعكسات تردي الأحوال الاقتصادية للسكان، ولم تدرك بعد أن المحافظة على السلم الأهلي هي إحدى أهم الأهداف الوطنية، فكل الأحزاب التي تعمل في سورية منذ فجر الاستقلال طالبت بالعدالة الاجتماعية، والتي تعني السلم الاجتماعي الذي يتهدد بالضرورة بالفروق الطبقية وفروق الدخل، وبالتالي يؤدي هذا بدوره إلى تهديد الواقع الاقتصادي السياسي في البلد. فالقضايا الأمنية مرتبطة بالقضايا الاقتصادية إلى حدٍ كبير.

• هل الخطة أم التنفيذ هي أسباب «الخلل» الحاصل في الاقتصاد السوري؟!
 ما يجري في التنفيذ لا أعتقد أنه خارج الخطة الخمسية العاشرة، لكن إذا كنت تتحدث عن الأرقام والمعدلات، فالأرقام وضعت جزافاً لتبرير الأهداف الحقيقية، حيث قيل سابقاً إن معدل النمو 7% لم ولن يتحقق! وقيل إن القطاع الخاص سيقدم 1000 مليار ليرة استثمارات، فأين هذه الاستثمارات؟! وهذا نوع من التضليل، فالخلل في السياسات، لأن ما يجري على أرض الواقع هو أكبر وأعظم مما رسمته الخطة..

* ما هو واقع اقتصاد السوق الاجتماعي في سورية؟
 اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد سوق رأسمالي بنكهة اجتماعية، وذلك لتخفيض وطأة اقتصاد السوق وآلياته وجموح الرأسمالية وسوقها على معيشة المواطن. تاريخياً بعد الحرب العالمية الثانية حصل نوع من المساومة بين النقابات العمالية والرأسمالية والحكومة بعد تحرير أوربا، التي أصبحت بعد الحرب أمام قضية بنائها الداخلي الذي واجه ثلاثة تحديات: أولها إعادة تعمير ما دمرته الحرب، وثانيها إقامة نموذج اقتصادي متطور يقف في وجه النموذج السوفيتي الذي بدأ ينتعش ويثبت جدواه وجدارته، والتحدي الثالث هو النقابات والأحزاب الاشتراكية، ونتيجة هذه التحديات ولتخفيف من غلواء النقابات ومن يمينية الأحزاب اليمينية الأوربية ومن الجشع الرأسمالي، تم التوصل لصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي من خلال تقديم الضمان الاجتماعي والصحي والتعليم المجاني، أما الطابع العام للنظام الاقتصادي الأوربي بقي رأسمالياً.
فاقتصاد السوق الاجتماعي نشأ في أوربا من رحم الرأسمالية لمعالجة ظروف رأسمالية متطورة، وخرج من واقع مختلف عن واقعنا، ولمواجهة تحديات ضمن المجتمعات الرأسمالية المتطورة، بينما نحن نطرح اقتصاد السوق الاجتماعي من رحم الدولة التدخلية، وفي ظل وجود اقتصاد سوق انفلاشي فوضوي وآلياته مشوهة، وهذه هي المفارقة!! فالمطلوب هو اقتصاد سوق اجتماعي يتناسب مع واقعنا وظروفنا وتطلعات شعبنا وتطلعاتنا، وأن لا يكون مجرد نقل لتجارب الآخرين.
وفي ختام اللقاء معه، أكد الدكتور منير الحمش أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والتجارية هي سبب ما وصل إليه الاقتصاد السوري اليوم من تراجع وارتفاعٍ في الفقر وزيادةٍ في البطالة، واليوم آن الأوان للقيام بعملية مراجعة تشارك فيها كل القوى الوطنية إلى جانب الحكومة، هذه الحكومة التي كانت تتعامل في السنوات الماضية بطريقة أحكوا واكتبوا ونحن نفعل ما نريد، لأنهم لا يريدون سماع سوى ما يقدم لهم من الاتحاد الأوربي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكن رأي الناس والخبراء السوريين لا يهمهم، على الرغم أن سورية تزخر بأصحاب العقول الذين يزاحون ويستبعدون بعناصر هامشية وبأفكار هامشية أو تستورد الخبرة الأجنبية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
411