«التخسير قبل الخصخصة».. والجري نحو الهاوية!

«التخسير قبل الخصخصة»، رؤية اقتصادية جديدة وضعها منظرو البنك، وصندوق النقد الدوليين، للدول الراغبة في توجيه مسيرة الاقتصاد على الطريقة النيو ليبرالية الدولية، وقد سارت العديد من الدول العربية وغير العربية على هذا النهج محاولة كسب ود ورضى كلا المؤسستين الدوليتين، لكن سورية كانت الأجرأ والأقل خجلاً في تطبيق هذه الرؤية التدميرية للاقتصاد الوطني.

وتقوم عملية التخسير هذه على إنشاء شركة خاصة لأحد كبار رجال الأعمال منافسة لشركة القطاع العام تعمل في المجال ذاته، ومن ثم يجري الترويج لها ومنحها تسهيلات مختلفة، مقابل إهمال وضرب الشركة العامة عبر تكريس وزيادة الفساد الإداري فيها، وعدم تجديد خطوط الإنتاج أو إيجاد منافذ تسويق جديدة والتضييق على العمال..
أما المفارقة الكبرى في هذه العملية والتي لا تحدث إلا في سورية، فهي أن الشركة الخاصة تلقى كل الدعم من الجهة الحكومية التي يفترض بها دعم شركة القطاع العام، مما يؤدي لإفلاس شركة القطاع العام، وتحقيق الشركة الخاصة أرباحاً كبرى في وقت قياسي.
وبذلك يتحقق الهدف الحقيقي من وراء إدخال هذه الشركات الخاصة، ألا وهو عرض الشركة العامة المخسرة للبيع أو الاستثمار أو الإغلاق.. وهذا بالضبط ما حدث ويحدث في سورية.
إن الحكومة السورية لا تزال تتعامل مع مؤسسات القطاع العام بعكس المنطق الطبيعي، هذا المنطق الذي يفترض من المالك (الحكومة) أسوة بجميع المالكين الآخرين، وأصحاب الشركات في أي مكان، السعي الدائم لخلق واقع أفضل لهذه الشركات، من خلال تطوير الآلات وتحسين الإنتاج ورفع مستوى المنافسة، وليس إهمالها، وإدخالها في منافسة غير شريفة كما يجري عندنا، وربما خير دليل على هذا المنطق هو ما تم مؤخراً بالسماح للقطاع الخاص بالعمل في مجال النقل الجوي، وكان آخرها الترخيص لشركة طيران لؤلؤة، وهي ثالث شركة طيران خاصة في سورية بعد شركة أجنحة الشام للطيران، وشركة طيران الشرقية. وقد بدأت لؤلؤة بتسيير أولى رحلاتها إلى مصر ومن بعدها إلى كافة دول العالم، بعد يومين فقط من انطلاقتها ضمن المحافظات السورية، وهذا يجعلها شئنا أم أبينا، منافساً حقيقياً للشركة السورية للطيران، بل ربما تكون المسمار الأخير في نعش الشركة السورية للطيران، والخطوة الأخيرة على طريق إخراجها من مجال العمل الجوي. يضاف إلى هذا أن لؤلؤة وللمفارقة فقط، هي الشركة الوحيدة التي انطبقت عليها شروط الترخيص من أصل 25 جهة متقدمة للحصول على التراخيص. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه الشركات الخاصة سوف تحتكر قريباً وبغض النظر عن إرادة السورية للطيران، جميع المحطات القصيرة (أوربا، تركيا، الدول العربية)، حيث تعد هذه الرحلات الأكثر ربحية بالنسبة لأية شركة طيران في العالم، وهذا ما بدأت به شركة أجنحة الشام عند إرسال أولى رحلاتها إلى كل من العراق وإنطاكيا ومصر، كما أن شركة طيران الشرقية بدأت رحلاتها هي الأخرى باتجاه شرم الشيخ و الأقصر, ودبي، وإسطنبول، وهذا سيكون حال شركة لؤلؤة للطيران أيضاً في وقت قريب. إي أن هذه الشركات الخاصة استحوذت على أجدى الخطوط وأفضل التسهيلات، بينما السورية للطيران تئن، وهي التي لا تمتلك إلا أسطولاًً مهتلكاً من الطائرات المهترئة، غير القادرة على القيام برحلاتها ضمن المحافظات السورية، حيث إن يد التحديث لم تطلها أو تمتد إليها منذ سنوات طويلة، فكيف ستكون حالها مع الرحلات الطويلة إذاً؟
إن ما يجري اليوم هو إقحام السورية للطيران في منافسة غير متكافئة، تهدف إلى استباحتها وإنهاء دورها بشكل تدريجي.
 
الأسمنت أيضاً..
وما يجري في قطاع النقل الجوي ينطبق على الأسمنت، فدخول شركة أسمنت البادية السورية الخاصة بطاقة إنتاجية سنوية تصل إلى 3.2 مليون طن، وهو ما يجعلها أكبر شركة للأسمنت في سورية، حيث تمتلك الحصة الأكبر فيها مجموعة المهيدب القابضة السعودية، سيشكل حاجزاً في وجه شركات الأسمنت العامة المنهكة والمحاربة من القائمين على إدارتها أساساً، وخير دليل على المحاربة هو المذكرة التي رفعتها وزارة الصناعة إلى رئاسة مجلس الوزراء قبل شهر تقريباً تقترح فيها إيقاف معمل الشيخ سعيد لإنتاج الأسمنت التابع لشركة الشهباء للأسمنت في حلب، وهذا يضاف إلى الواقع الرديء الذي تعانيه معظم شركات الأسمنت العامة من خطوط إنتاج مغرقة في القدم، فمعظم الآلات يتجاوز عمرها 40 – 50 عاماً، وتضم عمالة غير مدربة أو مجهزة، فكيف ستنافس شركة الأسمنت العامة، وطبعاً من خلال شركاتها في المحافظات، ضمن هذا الواقع المعيب الذي ساهم في صنعه، إن لم نقل صنعته بالمطلق إدارات المعامل ووزارة الصناعة وكل من تعاقب عليها، لأنهم وبكل بساطة، لم يعملوا على تطوير هذه المعامل، أو تجديد خطوط إنتاجها منذ سنوات طويلة.
 ألا يمكن القول إذاً: إننا جئنا بالقطاع الخاص ليس للمنافسة، بل للإقصاء وإخراج شركات القطاع العام لا أكثر.
 
وماذا عن القطاع الخدمي؟
القطاع الخدمي أيضاً وقع ضحية القرارات الحكومية، وأقرب مثال على ذلك قيام وزارة الكهرباء السورية بتوقيع مذكرة تفاهم مع شركة شام القابضة، تسمح للأخيرة بإقامة محطة خاصة لتوليد الكهرباء، هي الأولى من نوعها في البلاد، أي سمحت للقطاع الخاص بدخول ما كان محرماً عليه، مخالفين بذلك المرسوم 65، الذي يحصر عمل قطاع الكهرباء بالحكومة السورية، بهدف تلبية الطلب المتزايد على الطاقة. علماً أن شبكاتنا الكهربائية تعاني من فاقد كهربائي فني حسب تصريح وزير الكهرباء يصل إلى 24%، وتصل تكلفته إلى 26 مليار ليرة سورية، يمكن لسورية إذا ما استطاعت توفيره، وهذا ممكن، أن تتفادى النقص الحاصل في حاجات السوق المحلية، وتوجيه هذه المليارات الضائعة لتحسين وتوسيع وتطوير شبكاتنا.
وهنا لا بد من السؤال: إذا كان هناك نقص فعلي بالطاقة، لماذا نقوم بتصدير الكهرباء السورية إلى ثماني دول عربية عبر اتفاقية الربط المشترك؟؟ علماً أن الكهرباء التي تقدم للبنان، وحدها قادرة على تغطية نقص الكهرباء في محافظة ريف دمشق بأكملها.
ولماذا تحاول وزارة الكهرباء إيهام الناس بأن سورية تعاني من نقص في الكهرباء، وتحتاج لمساعدة الاستثمار والمستثمرين عبر افتعال التقنين الدائم، أم أن الهدف هو إعطاء العذر والمشروعية لإدخال شركات القطاع الخاص إلى القطاع الكهربائي تحت يافطة الحاجة وزيادة الطلب على الطاقة، وبالتالي رفع يد الدولة تدريجياً عن إنتاج الطاقة الكهربائية، وإحلال القطاع الخاص وعمالقته الجدد مكانها.. وبالتدريج السريع!!

معلومات إضافية

العدد رقم:
414