الإصلاح الاقتصادي بين الأبيض والأسود (4) الاصلاح الحقيقي والإصلاح المُزَيَّف

«الكثيرون ممن يعلقون آمالهم على حزب البعث الحاكم، كالبيروقراطيين والقطاع العام والجيش وأجهزة الأمن يشعرون بتهديد الإصلاح الحقيقي لمواقعهم، إنهم لا يستطيعون أن ينهوا الحديث عن الإصلاح ولا أن يوقفوا اتخاذ بعض الإجراءات. لكنهم يستطيعون، وقد فعلوا، إبطاء العملية».

■ د.نبيل سكر »الشرق الأوسط« 18 تشرين الأول 2002

■■ ما معنى أن يقال: «إن القطاع العام والجيش يشعران بتهديد الإصلاح الحقيقي لمصالحهم»؟!

■■ الشريحة التي تقوّت بالخصخصة واغتنت في روسيا، تمثل قوى الفساد وقوى اقتصاد الظل في النظام القديم..

■■ قوى الفساد كانت تراكم ثرواتها سراً خوفاً من يوم الحساب

■■ قوى السوق وقوى الفساد موحدة  في نهب الشعب والدولة ومختلفة على الحصص..

■■ قوى الفساد تؤثر على القرارات الاقتصادية وتجعلها شريكاً لا منافس له مع قوى السوق

■■ الإصلاح الحقيقي هو الذي يتجاوب مع مصالح أوسع الناس.

■■ الإصلاح الحقيقي يؤمن السيادة الوطنية ويعززها..

■■ إصلاح اقتصاد السوق يفتح الأسوار أمام غزو الرساميل الأجنبية متخلياً عن السيادة الوطنية والكرامة الوطنية.

عرضنا في المقال السابق موضوع إشكالية مفهوم «اقتصاد السوق»، وتوصلنا إلى استنتاج حول أن  الداعين المعاصرين له لا يبغون من الناحية العملية إلاّ هدم الحواجز أمام غزو الرأسمال الأجنبي تسهيلاً لمهمته، هذه  الحواجز التي أول ما يمثلها قطاع الدولة الذي أثخن بالجراح خلال هجوم قوى الفساد عليه على مدى عشرات السنين، هذا الهجوم الذي أخذ شكلاً متصاعداً، ورغم كل شيء فما زال حياً واقفاً على أقدامه ولو كان يترنح أحياناً بفضل الضربات المشتركة لقوى الفساد وقوى السوق.

وهم في دعوتهم إلى «الاصلاح» يشدون إلى الوراء نحو النموذج الأول من اقتصاد السوق، هذا النموذج الذي لا تعمل على أساسه تلك المؤسسات والأوساط والدول التي تدعونا إليه، فهذا النموذج هو في متحف التاريخ، وهو إن طُبق في الفترات الأخيرة فقد أدى إلى خراب واسع وتدمير للقوى المنتجة، انعكس بهبوط نسبة النمو إلى ما تحت الصفر، وبالتالي انخفاض حاد لمستوى المعيشة أدى في بعض المناطق إلى ما يشبه الإبادة الجماعية للسكان المتمثلة بانخفاض عدد سكان البلاد التي طُبق فيها نموذج «اقتصاد السوق الحر».

وتوصلنا إلى طرح سؤال نعتقد أنه هام، فحواه: إذا كان دعاة اقتصاد السوق في ظروف سورية أصبحوا يدعون إلى عدم  تبديد أموالهم على قطاع الدولة على طريق خصخصته، كما جرى في روسيا وغيرها، فلماذا، من جهة أخرى يدغدغون مشاعر البعض بالقول: «إن أعضاء الأحزاب الشيوعية في روسيا وأوربا الشرقية حولوا أنفسهم إلى رجال أعمال أقوياء»!.

أولا،ًَ يجب التدقيق هنا. فالذي حوَّل نفسه إلى رجل أعمال قوي في روسيا وأوربا الشرقية ليس كل أعضاء الأحزاب الشيوعية بل تلك الشريحة الضيقة والقليلة العدد في هذه الأحزاب وفي جهاز الدولة، بينما الأكثرية الساحقة من هذه الأحزاب، أسوة بجماهير شعوبها تعرضت لأكبر عملية احتيال وإذلال، كان نتيجتها مثلاً انخفاض وسطي العمر المحتمل للرجال من 72 سنة في عهد السلطة السوفيتية إلى 47 سنة في عهد سلطة «رجال الأعمال الأقوياء».

والجدير بالذكر أن هذه الشريحة التي تقَّوت بالخصخصة واغتنت، كانت أصلاً تمثل في النظام القديم قوى الفساد وقوى اقتصاد الظل. قوى الفساد، أي موظفي الدولة الفاسدين الذين كانوا يراكمون ثرواتهم سراً خائفين من يوم الحساب، مما استدعاهم، حينما أتيحت الفرصة لهم، أن يطيحوا بالنظام القديم، وأن يٌخرِجوا أموالهم المكدسة من تحت الأرض وأن يبيِّضوها في عملية خصخصة المؤسسات التي كانوا يديرونها، أما قوى اقتصاد «الظل» فكانت قوى المافيا الجنينية،  هذه القوى التي كانت ضرورية لرجال الفساد لتسيير أعمالهم في السوق والتي تحولت بالتدريج مع انتصار الخصخصة إلى مافيا حقيقية متحالفة مع الحكام الجدد/ السابقين.

هذه باختصار شريحة رجال الأعمال الأقوياء في روسيا وأوربا الشرقية: إما «حرامية» من الأساس، وإما «مجرمون» من الأساس، ولا يغير في الأمر شيئاً إذا تحولوا اليوم إلى مليارديرية أقوياء، إذ يبقون غير قادرين عن الإجابة على السؤال الأساسي: من أين أتوا بالمليون الأول؟.

ولكن السؤال يبقى قائماً: لماذا من جهة يقول دعاة اقتصاد السوق عن قطاع الدولة: «دعه يموت» ومن جهة أخرى يدعون البعض إلى التحول إلى رجال أعمال أقوياء؟!.

ديالكتيك العلاقة بين قوى السوق وقوى الفساد:

العلاقة بين قوى السوق وقوى الفساد معقدة يحكمها قانون وحدة ونضال الأضداد. فهم مُوحدون في نهب الشعب والدولة، ومختلفون على الحصص. وإذا كان هنالك توزيع ما ثابت نسبياً لحصص النهب فإن الطرف الأضعف سرعان ما سيطالب بتغيير شروط المعادلة، إذا شعر أن الظروف تتغير لصالحه. فلنبحث في نقاط ضعف كل طرف ونقاط قوته كي نفهم شكل الصراع على الحصص.

بالنسبة لقوى السوق «التي يُصطَلَح على تسميتها بالبرجوازية الطفيلية» فهي لها فعلاً وزن في السوق المحلية، لكن الوزن الأهم هو في السوق العالمية، نتيجة علاقاتها التاريخية وكُتب الاعتماد القديمة التي حصلت عليها والتي لم تلغ حتى الآن، والتي تؤهلها للاستمرار بلعب دور هام في الحياة الاقتصادية.

أما نقطة ضعف هذه القوى فهي أنها منذ أن أزيحت في النصف الثاني من القرن الماضي عن مقاليد السلطة السياسية الفعلية لم تستطع حتى الآن العودة إليها رغم نفوذها الاقتصادي المتنامي.

أما بالنسبة لقوى الفساد التي يُصطلح على تسميتها علمياً بالبرجوازية البيروقراطية،  فتكمن قوتها في قدرتها على اتخاذ قرارات ضمن جهاز الدولة في المجال الاقتصادي تجعلها شريكاً لا منافس له مع قوى السوق، مما مكنها ويمكنها من تجميع ثروات على حساب الدولة والمجتمع تتطلب في نهاية المطاف التدوير والتحريك والتوظيف، وهنا تبدأ بالظهور نقطة الضعف لدى هذه القوى، فالمال الحرام يتطلب تهريبه إلى مكان آمن، وليس من مكان أفضل من البنوك الأجنبية، ولكن نفوذ قوى السوق المحلية في السوق العالمية التي تشكل البنوك الأجنبية جزءاً هاماً منها، أهم بكثير من نفوذ قوى الفساد لذلك فهي مضطرة للبحث عن نقاط التقاء داخلية معها كي تحصل على رضاها الخارجي.

والجديد أن قوى السوق المحلية ترى أن الظروف العالمية والإقليمية تسمح لها بالحصول على حصة من  النهب أكبر بكثير من التي كانت تحصل عليها سابقاً وصولاً إلى الاستيلاء على القرار السياسي.

ولكن مشكلة قوى الفساد الموجودة في جهاز الدولة والمحكومة به، هي في  أنها لا تستطيع أن تعرض على قوى السوق حلاً يرضيها وبالسرعة المطلوبة منها، مما أدى عملياً إلى ظهور اتجاهين واضحين في المجتمع والدولة، يتصارعان علناً وفي الخفاء، اتجاه تمثله قوى الفساد يريد أن «يندلق» بسرعة على سلالم قوى السوق. واتجاه آخر وطني حقيقي، يرى مخاطر هذا التهافت ويريد الحفاظ على قطاع الدولة وتخليصه من فساده على طريق إصلاحه.

وهنا تقوم قوى السوق بمناورة واضحة، مستخدمةً سياسة الجزرة والعصا، فهي من جهة تغري رجال قوى الفساد بمستقبل باهر مثل روسيا وأوربا الشرقية، لتشجعهم وتورطهم لأنها تراهن على انقسام عميق في جهاز الدولة، ومن جهة أخرى  تحذرهم من أنهم إذا لم يفوا بالتزاماتهم، فإن قوى السوق «ستحرد» ولن تعود إلى موضوع الخصخصة الذي من المفروض، إن جرى، أن تحصل قوى الفساد على حصة «مدهنة» منه، رافعة بذلك سقف مطالبها وموجهة عملياً، كما يتبين من الاستشهاد في بداية هذه المادة، الهجوم على كل جهاز الدولة وعلى جزء هام من المجتمع الذي برأيها يعيق عملية «الإصلاح» على طريقتها، وهي بهذا الهجوم تريد أن تشجع قوى الفساد على أن تحذو حذوها وأن تخلِّصه من الروابط التاريخية، إن وجدت، والتي ما زالت تربطها بجزء هام من جهاز الدولة.

وإلاّ فما معنى أن يقال: إن القطاع العام والجيش يشعران بتهديد الإصلاح الحقيقي لمصالحهم؟. فهؤلاء عددياً مع من يعيلونهم يشكلون عدة ملايين من أبناء الشعب السوري، وإذا لم يكن الإصلاح متجاوباً مع مصالحهم، فواجبهم الوطني والاجتماعي يملي عليهم أن يقاوموا إصلاحاً كهذا والذي ما هو في نهاية المطاف إلاّ إصلاح مزيف.

ما هو الإصلاح الحقيقي؟

الإصلاح الحقيقي هو الذي يتجاوب مع مصالح أوسع الناس، وأي إصلاح آخر لا يتجاوب مع مصالح الناس ليس إصلاحاً، بل هو إصلاح مزيف، وتدمير للقوى المنتجة.

الإصلاح الحقيقي يهدد مواقع الفساد والنهب ويهدد تهديداً مباشراً قوى السوق وقوى الفساد.

إصلاح قوى السوق يهدد مصالح المجتمع، الناس، والوطن، ويؤمن مصالح قوى الفساد عبر استخدام الخصخصة التي ستتحول إلى عملية نهب قانونية جديدة.

الإصلاح الحقيقي ينَّمي القوى المنتجة ويقوي الاقتصاد الوطني ويرفع وتائر النمو.

إصلاح قوى السوق في أي مكان حلَّ حتى الآن دمر القوى المنتجة، خرَّب الاقتصاد الوطني، خفض وتائر النمو إلى ما تحت الصفر.

الإصلاح الحقيقي يحسِّن من معيشة أكثرية الناس محافظاً على كرامتها.

إصلاح قوى السوق يمركز الثروة في أيد قلة قليلة ويفقر المجتمع كله.

وأخيراً الإصلاح الحقيقي يؤمن السيادة الوطنية ويعززها، بينما إصلاح اقتصاد السوق يفتح الأسوار أمام غزو الرساميل الأجنبية متخلياً عن السيادة الوطنية والكرامة الوطنية.

إن القوى الوطنية، بغض النظر عن مسمياتها الحزبية، هي مع الإصلاح الحقيقي وضد الإصلاح المزيف الذي تدعو إليه قوى السوق المتحالفة مع قوى الفساد تحت حجج ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الواقعية، والتكيف، والحكمة، ويقولون: «العين ما بتقاوم المخرز»، ولكن الحياة برهنت، كما قال عمر فاخوري أنه دائماً كان ينبت للعين ظفر وناب!.

■ د. قدري جميل

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.