ملف «تمويل الطاقة» في سورية.. 200 مليار ليرة سنويا للطاقة فماذا عن التعليم والصحة والنقل و....؟

سنحاول في هذا العدد تحليل مشكلة مصادر تمويل الطاقة في السنوات العشر القادمة وتحليل الآثار الاقتصادية الشاملة الناتجة عن ذلك التمويل وتبيان حجم المخاطر المستقبلية التي ستواجهها سورية إذا لم يجر هناك تعويض حقيقي لتمويل الاقتصاد من قطاعات اقتصادية بديلة.

المازوت أبو الأزمات المستقبلية

منذ سبعة أشهر تماما قدرت الشركة العامة للمحروقات حاجة القطر الفعلية من مادة المازوت لعام 2005 بـ6.6 مليون طن وبزيادة قدرها 5% عن عام 2004  ستؤمن الشركة من هذه الكمية 3.7 مليون طن في حين تستورد الباقي)، وبالتالي ففي عام 2005 ستستورد سورية حوالي 2.9 مليون طن مازوت وقد تصل إلى 3 ملايين طن وهذا الاستيراد لن يتوقف أبدا بل سيزيد في عشر السنوات القادمة لأن معدل زيادة استهلاك المازوت في سورية لن يقل عن 5% سنويا والسؤال الأساسي الآن هو لماذا يستورد بلد منتج للنفط المازوت من الخارج؟ الإجابة على هذا السؤال ترتبط بعاملين أساسيين الأول هو مستويات إنتاج النفط الخام والثاني هو الطاقة التكريرية لمصفاتي حمص وبانياس وسنعالج هذين العاملين بطريقة مشتركة ودون الفصل بينهما. تشير بعض الدراسات الحديثة جدا في قطاع النفط أن الإنتاج الحالي من النفط الخام في سورية يصل عندها إلى حوالي 445 ألف برميل في اليوم وأن هذا الإنتاج في انخفاض مستمر وأنه في حال عدم وجود اكتشافات نفطية جوهرية جديدة فإن إنتاج النفط سينخفض ليصل في عام 2015 إلى 250 ألف برميل في اليوم في حين أن الاستهلاك الداخلي سيصل إلى حوالي 400 ألف برميل يوميا، وبالتالي سيكون الاقتصاد في عجز مقداره 150 ألف برميل في اليوم بعد عشر سنوات من الآن الأمر الذي يرجح أن تصبح سورية مستورد صافي للنفط بالإضافة إلى أن تصبح مستورد صافي للمازوت والسبب الأساسي في استيرادنا المستمر للمازوت هو أن الطاقة التكريرية لمصفاتي حمص وبانياس لا تسمح لهما بتكرير أكثر من 245 ألف برميل نفط يوميا رغم أنهما تعملان بأقصى طاقتهما التكريرية  وناتج تكرير هذه الكمية من المازوت والبنزين لا يكفي أبدا للاستهلاك المحلي وبالتالي يقع القطر  في عجز يغطيه عن طريق الاستيراد. تقدر كلفة استيراد طن واحد من المازوت وسطيا بـ500 دولار حسب السعر العالمي له وهي لن تقل عن هذا الحد أبدا على الأقل حتى نهاية عام 2005 وتحديدا خلال فصل الشتاء المقبل وبالحساب الاقتصادي  البحت  نجد  أن وسطي كلفة استيراد الـ3 مليون طن مازوت عام 2005 ستكون بحدود 1.5 مليار دولار وهو الحد الأدنى طبعا بل ومرشح للزيادة مستقبلا بسبب زيادة استهلاك المازوت المرتبط بزيادة عدد السكان وزيادة عدد السيارات والمصانع والمنشآت العاملة على المازوت وأشياء كثيرة أخرى ومن جهة ثانية تدل الحسابات الاقتصادية على أن صافي عائدات الحكومة السورية من إيرادات النفط ( بعد دفع حصة الشركات الأجنبية ) يصل إلى حدود 2 مليار دولار سنويا إذا كان سعر برميل النفط 50 دولار وهذه الإيرادات مرشحة للتناقص مستقبلا بسبب الانخفاض المستمر في مستويات إنتاج النفط الحالي، وهنا نستنتج استنتاجاً غاية في البساطة ألا وهو أن عائدات النفط تكفي فقط لاستيراد المازوت. من أين ستمول سورية مستورداتها النفطية من بعد عام 2010 أو بطريقة أخرى ما هي القطاعات الاقتصادية البديلة التي طورتها سورية أو ستطورها لتجنب أزمة تمويل الطاقة من المشتقات النفطية؟

تمويل الكهرباء: الأزمة آتية لا محالة

  يزداد الطلب على الطاقة الكهربائية في سورية بشكل ملحوظ جدا لعدة أسباب أهمها زيادة عدد السكان وزيادة استخدام الأجهزة التي تعمل على الطاقة الكهربائية والاستثمارات الصناعية والخدمية الجديدة في الاقتصاد وعوامل كثيرة أخرى ستدفع بالطلب على الطاقة الكهربائية ليصل إلى 44 مليار كيلو واط ساعي عام 2010 حسب دراسة المفوضية الأوربية المعدة لصالح وزارة الكهرباء مؤخرا. وبالاستناد إلى توقعات وزير الكهرباء نجد أن سورية مضطرة لإنفاق 2 مليار دولار سنويا لتأمين حاجتها من الطاقة الكهربائية. إذا مرة أخرى نحن أمام التساؤلات السابقة نفسها، من أين ستأتي سورية بهذه الـ2 مليار دولار سنويا؟ ثم ألا توجد حلول أخرى لتخفيف الهدر وتوفير الطاقة الكهربائية لتقليل كلفة التمويل؟ على هذا السؤال يجيب زياد عربش قائلا " إن الإدارة الجيدة للشبكة وصيانة الخطوط وتقليل المقاومة والفاقد باستخدام نوعية "أسلاك" وتجهيزات حديثة وتخفيض نسبة التعدي على الشبكة (الاستجرار غير النظامي) والاستخدام الرشيد للطاقة يوفر على سورية طاقة تتراوح ما بين 1500-2000 ميغا واط  وهو ما يعادل إنشاء 3 محطات جديدة والتي من الممكن أن تصل تكلفة إقامتها ما بين 600-800 مليون دولار. كذلك فإن تحسين كفاية استخدام الطاقة في القطاع السكني سيسمح بتوفير 25% من الطاقة المستهلكة سيما وأن هذا القطاع يستهلك 50% من الاستهلاك الكلي للكهرباء وتوفير هذه الـ25% سيساعد على توفير 700 مليون دولار حسب أسعار الوقود "

لتمويل الغاز حكاية مشابهة أيضا

ينتشر الغاز في سورية بالمنطقة الوسطى ويقدر الإنتاج الحالي منه بحدود 16 مليون متر مكعب يوميا لكن هذا الإنتاج من المتوقع أن يتضاعف خلال السنوات العشر القادمة ليصل إلى 30 مليون متر مكعب يوميا وتشير بعض الدراسات إلى  أن احتياطي الغاز الموجود حاليا يكفي سورية لمدة 25 عاما أخرى على الأقل وهنا نذكر أن مساهمة الغاز في توليد الطاقة الكهربائية في زيادة مستمرة فقد ارتفعت مساهمة الغاز في توليد الطاقة من 18% عام 1993 إلى 58% عام 2003 وهذا يدل من حيث المبدأ على وجود ترابط بين الطلب على الكهرباء وإنتاج الغاز لتلبية ذلك الطلب هذا مع العلم أن المحطات الكهربائية الحالية تستهلك ما نسبته 70% من مجمل الغاز المنتج فكيف سيكون الأمر في حال تم الاعتماد على محطات توليد جديدة مستقبلا؟ والملاحظ هنا أنه من أجل الاعتماد على الغاز كمصدر للطاقة المستقبلية فهذا يعني أننا بحاجة إلى تطوير الحقول المنتجة له وهذا التطوير يحتاج إلى استثمارات لابأس بها خلال السنوات  العشر القادمة وقد قدر زياد عربش قيمة الاستثمارات اللازمة لتطوير حقول غاز المنطقة الوسطى بحدود 4.8 مليار دولار منها 3.2 مليار دولار لتطوير الحقول بشكل مباشر و 1 مليار دولار لبناء شبكة الأنابيب المحلية والدولية و 300 مليون دولار لبناء معمل البوريا و500 مليون دولار كلفة تحويل المنشآت الصناعية العاملة على الكهرباء لتعمل على الغاز وبحساب بسيط نجد أن سورية بحاجة إلى ما قيمته وسطيا 480 مليون دولار سنويا لتطوير إنتاج الغاز ونقله وتوزيعه

نقص التمويل ونقص الرؤية

 سورية اليوم أمام أزمة "تمويل طاقة" والأكثر من ذلك أنها أمام عجز في تخطيط استراتيجيات الطاقة فهيئة تخطيط الدولة التي تتزعم قيادة تحويل الاقتصاد وتغييره لا تملك استراتيجية طاقة متكاملة أو رؤية شاملة لموضوع الطاقة والدليل على ذلك أن التقرير الاقتصادي الذي قدمته الهيئة إلى مؤتمر الحزب العاشر منذ أربعة أشهر احتوى على أرقام سطحية عن قطاع الطاقة في مجالي الإنتاج والإيرادات ولم يحتو على رسم مستقبلي لسياسة ذلك القطاع. والأهم من ذلك أنه عندما تراهن الهيئة على إحداث معدل نمو اقتصادي سيصل إلى 7% دون أن يكون لديها رؤية لتمويل ذلك النمو طاقويا عندها يكون رهانها ذلك نوعا من العبثية فالنمو الاقتصادي بحد ذاته يحتاج إلى طاقة لإحداثه لكن مصادر الطاقة مهددة ومصادر تمويلها في أزمة بل إن قطاع الطاقة ذاته ولكي يساهم في النمو الاقتصادي بشكل أكبر يحتاج إلى تمويل أولا وهذا التمويل هو المشكلة. المشكلة في النهاية هي مشكلة اقتصاد متكامل وليست مشكلة قطاع الطاقة فقط، إذ لا يمكننا فصل ومعالجة مشاكل قطاع الطاقة بمعزل عن مشاكل باقي قطاعات الاقتصاد الأخرى, وعلى سورية في التحليل النهائي أن تنقل اقتصادها من اقتصاد الريع القائم على النفط والغاز والفوسفات والقطن والسياحة وتحويلات المغتربين والتي مازالت معتمدة عليهم حتى الآن إلى اقتصاد الصناعة الحقيقية بكل أبعادها التقليدية والتكنولوجية ولا بديل لها عن ذلك.فالطاقة التي كانت يوما ما محركا للنمو الاقتصادي ومصدرا له ها هي اليوم تصبح قيدا عليه وعائقاً لإحداثه.

■ أيهم أسد

 

عن الاقتصاد والنقل بتصرف«قاسيون»