على هامش اليوم العالمي لمحو الأمية... الأمية في سورية... داء لا يصيب إلا الفقراء!!

تعد الأمية واحدة من كبريات المشاكل التي يعاني منها الفقراء في كافة أرجاء المعمورة، وهي تطال المسحوقين والمهمشين في الدول الصناعية الكبرى كما تطال نظراءهم في آسيا وأوربا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإذا كانت هذه الأمية تشكل دليلاً صارخاً على التفاوت الاجتماعي ـ الاقتصادي الكبير بين الأغنياء والفقراء في الدول الصناعية الغنية، وتدين النظام الرأسمالي الإمبريالي المعولم بصفته وحشاً نهماً أبعد ما يكون عن العدالة الاجتماعية، فإن الأمية في الجنوب الفقير تشكل أبرز العوائق الأساسية التي تعرقل عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجمل دوله.

والمدهش في الأمر أن نسب الأمية في العالم بأسره آخذة بالازدياد، وبتسارع كبير، منذ العقد الأخير من القرن العشرين، رغم أنها راحت تتناقص بدءاً من الخمسينات وطوال أكثر من أربعة عقود!!

إنَّ هذا إن دل على شيء، فإنه يدل على الانحدار الأخلاقي والإنساني للإمبريالية المتوحشة بإطارها العولمي، خصوصاً بعد أن استفردت بالسيادة والتخطيط عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، وبعد أن أحكمت سيطرتها على المنظمات الدولية عامة ومن بينها «اليونسيف»، وصندوق الأمم المتحدة للسكان.

من هو الأمي

 يعرف الأمي على أنه: «الشخص الذي تجاوز سن الطفولة من دون أن يتقن القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الأربع»، وهذا التعريف فيه تبسيط لمعنى الأمية، خاصة أن «محو الأمية» في هذا الزمان الذي اتسعت فيه ألف باء المعرفة، أصبح يتطلب أكثر من ذلك بكثير، ومع ذلك فإنه وضمن هذا المعنى لا يزال قرابة المليار نسمة في هذا العالم يرزحون تحت وطأة الجهل المطلق.

وحسب معهد اليونسكو للإحصاء فإن واحداً من أصل خمسة كبار ما يزال أمياً، وتشكل النساء ثلثي العدد الإجمالي للأميين في العالم، وتعد المناطق المتوزعة في جنوب الصحراء الأفريقية وجنوب وغرب آسيا والدول العربية من أكثر المناطق التي تنتشر وتتزايد فيها نسب الأمية حيث تضم 70% من النسبة الإجمالية للأميين في العالم.

وفي أمريكا اللاتينية بلغ عدد الأميين 185 مليون نسمة، وفي منطقة الكاريبي وأمريكا الوسطى وصل العدد إلى 39 مليون نسمة وهذه الأرقام تشكل ما نسبته 11% من العدد الإجمالي للسكان.

إن الأمية تحفر عميقاً بين النساء ولدى الأقليات الإثنية (في كل بلد)، كما تنتشر بين الفئات الأكثر فقراً في المدن والأرياف وفي البلدان المحاصرة اقتصادياً من الإمبريالية العالمية، كما وتجد أرضاً خصبة لها في الدول التي تحكمها الأنظمة الدكتاتورية.

الأمية في سورية

ظلت سورية طوال ثلاثة عقود من الدول التي تسير قدماً وبخطى واسعة في طريق محو الأمية، وكانت مرشحة للقضاء على الأمية نهائياً قبل انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين!!

فمنذ أواخر الستينات حيث كانت نسبة الأمية تزيد عن 50% أخذت الدولة على عاتقها إعداد الخطط والبرامج والمناهج لمحو الأمية، وصدر في عام 1971 قانون لمعالجة هذه القضية، وبالفعل تم تحقيق نجاحات كبيرة في هذا المجال حيث راحت الأمية تنخفض بشكل كبير وملحوظ (رغم غياب الإحصاءات الدقيقة لأعداد المتخلصين من أميتهم)، وقد استمرت هذه النجاحات لأكثر من عقدين أي حتى بداية التسعينات من القرن الماضي... بعدها بدأ التباطؤ ومن ثم التراجع بشكل تدريجي، إلى أن وصل أو كاد إلى درجة الصفر.

فحسب تقرير التنمية البشرية في سورية الصادر عن هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع البنك الدولي، فإن الزيادة السنوية لعدد المتخلصين من أميتهم لا تتجاوز 0.6%. 

أرقام ونسب... ودلالات:

وصلت نسبة الأمية في سورية (حسب التقرير المركزي للإحصاء) إلى 19% وتتوزع هذه النسبة 12.1% في صفوف الذكور و26.1% في صفوف الإناث، وتتصدر المحافظات الشمالية والشمالية الشرقية لائحة الأمية، وبلغ أعلى معدل لها في محافظة الرقة حيث وصلت النسبة فيها إلى أكثر من 38%، كما وتتوزع هذه النسبة بين الأرياف والمدن وبين الرجال والنساء، وتتركز في الفئة العمرية (فوق 15 سنة) وتزداد بين الريفيين والنساء.

واستناداً إلى أرقام إحصاء عام 2000 حيث كانت النسبة العامة للأمية 28% فإن توزعها كان 19.5% في المدن، و39% في الريف، منها 15% في صفوف الذكور و28% في صفوف الإناث.

وترتفع نسبة الأمية في صفوف النساء الريفيات اللواتي يزيد عمرهن عن 25 سنة إلى 57% وتنخفض لدى مثيلاتهن في المدن إلى 29%.

إن نظرة عميقة إلى هذه الأرقام والنسب تؤكد مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات:

-1 عدم دقة الإحصاءات وشموليتها، فحسب المكتب المركزي للإحصاء كانت نسبة الأمية في سورية عام 2000 هي 28%، فكيف انخفضت إلى 19% خلال أربع سنوات؟ وما هي الخطط والآليات والبرامج (غير الملحوظة) التي جرى اعتمادها للوصول إلى هذه النتائج المبهرة؟ وهل هذا يعني أننا، وانطلاقاً من هذه المؤشرات ستقضي على الأمية خلال عشر سنوات؟

-2 إذا اعتمدنا على نتائج الدراسات والتقارير الإحصائية فيما يخص التوزع الطبقي والديمغرافي للأمية في سورية، نكتشف ضعف، بل ربما غياب كل أشكال التنمية البشرية في الأرياف وفي المحافظات البعيدة عن العاصمة وحجم الهوة التي تتسع بين الفقراء والأغنياء نتيجة السياسات الاجتماعية ـ الاقتصادية التي أخذت تتبناها الحكومات في سورية منذ عقدين، وخاصة فيما يتعلق بالتعليم وبتوزيع الدخل وبمشكلة البطالة، حيث لا تزال هذه المشكلات تتفاقم بشكل متسارع، وتضغط باتجاه ازدياد نسب الأمية وليس العكس.

-2 تشير إحصائيات وزارة التربية إلى أن نسبة المتسربين من المرحلة الابتدائية ـ الحلقة الأولى من التعليم الأساسي هي 2.2% سنوياً وهذا يعني من جملة ما يعنيه أن أكثر من عشرة آلاف طفل يدخلون في عداد الأميين سنوياً، طبعاً هذا ضمن الحد الأدنى، فكيف تدعي الإحصائيات النهائية أن الأمية في بلادنا هي في تراجع، وأننا على وشك القضاء عليها نهائياً!؟

-4 إن ارتفاع نسبة الأمية في صفوف النساء تؤكد حقيقة لا ريب فيها، وهي أن تدهوراً اجتماعياً وفكرياً بات يطغى في المجتمع، مع تراجع وتقهقر أفكار حرية المرأة ومساواتها إنسانياً وقانونياً واجتماعياً واقتصادياً مع الرجل، وهذا يمهد بدوره إلى مزيد من القهر والتعسف بحقها، طالما أن الدولة بمؤسساتهاوبرامجها التثقيفية بعيدة وغير مهتمة وباتت لا تحرك ساكناً في هذا الاتجاه.

-5 غياب الاستراتيجيات الوطنية للنهوض بالمجتمع اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً والاكتفاء بالجهود غير المنظمة المرتجلة عند هذه الجهة أو تلك، والتخلف عن مواكبة حاجات المجتمع المتغيرة والمتطورة، والتقاعس عن التصدي للمشكلات والأزمات، والركون إلى الحلول السهلة.

محاربة الأمية... آليات وعوائق:

 تعد مديرية تعليم الكبار والتنمية الثقافية في وزارة الثقافة الجهة الأساسية المعنية بمحاربة الأمية، يضاف إليها عدد من الجهات الرسمية في وزارة التربية ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وفي هيئة تخطيط الدولة، بالإضافة إلى عدد من المنظمات الشعبية كالاتحاد النسائي واتحاد نقابات العمال وغيرها، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها جميع هذه الجهات، وبعضها لا يزال نشطاً حتى الآن، فإن النتائج لم تعد بالمستوى الذي كانت عليه قبل عقدين، وهذا عائد إلى جملة من الأسباب، أهمها ضعف الميزانيات المخصصة لبرامج محو الأمية في سورية، وتردد أو امتناع عدد كبير من الدارسين عن الالتحاق بدورات محو الأمية، وغياب كل أشكال الحوافز التي من شأنها تشجيع الملتحقين بالدورات على الاستمرار فيها حتى نهايتها، وقلة أو ندرة المعلمين المتخصصين بتعليم الكبار، واللامبالاة وعدم الجدية التي تتعاطى بها بعض الجهات مع هذا الموضوع الحيوي، بالإضافة إلى هذه الأسباب يأتي سبب اجتماعي هام في رأس المعوقات التي تعيق محو الأمية في بعض المناطق، ونعني هنا بعض العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي لا تتحمس لتعليم الإناث، وتسخر من الكبار، نساء ورجالاً، الراغبين في محو أميتهم.

ورغم كل هذه المعوقات لا يزال عدد كبير من الأشخاص يلتحقون بمراكز ودورات محو الأمية، ويبين الجدول (أسفل الصفحة) بعض الأرقام وتوزعها ومستوياتها في المحافظات السورية حتى عام 2001: ■ انظر الجدول .

الإحصاءات في واد... والواقع في واد!!

لا تزال الإحصاءات في سورية تعتمد في جزء كبير منها على التخمين والافتراض والقياس، وغالباً تنقصها الدقة والشفافية والموضوعية، حيث تتعاطى مع الأرقام بشكل قابل للتفاوتات الكبيرة وأحياناً تصل لدرجة التناقض مع الوقائع الحقيقية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن عدد التلاميذ الذين يلتحقون بالصف الأول سنوياً يتجاوز الـ 450 ألف تلميذ، بينما لا ينهي الحلقة الأولى من التعليم الأساسي (أي الصف السادس) من هذا العدد سوى 215 ألف تلميذ أي ما يزيد عن الـ 50% من النسبة الإجمالية، وهذا له مدلولات خطيرة، وله انعكاسات غاية في السلبية على المجتمع وعلى المستوى الثقافي والاقتصاد الوطني عموماً. وفي الغالب فإن النسبة العظمى من هؤلاء المتسربين سيفقدون مقدرتهم على القراءة والكتابة، هذا إن امتلكوها أصلاً، خلال فترة قصيرة، وبالتالي فإنهم سيلتحقون بجيش الأمية والأميين. فكيف إذاً لم يلحظ الإحصاء ذلك؟ وهل يكفي أن يتعلم الطفل حتى الصف الثالث أو الرابع أو حتى السادس لنقول عنه إنه غير أمي؟

من جهة أخرى، ولدى سؤالنا عدداً كبيراً من الناس في عدة قرى في ريف دمشق عن فرق إحصائية ميدانية زارت قراهم مؤخراً، أكد الجميع أنهم لم يشاهدوا أياً منهم!! فكيف إذن تم هذا الإحصاء؟ وهل اعتمد في معلوماته على الإحصاء العام الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء العام الماضي 2004 بكل ما فيه من عيوب ومثالب ومجانبة للدقة؟

إذن، فهناك أمر غير واضح، وعلى هيئة تخطيط الدولة أن تطلعنا كمواطنين وكمهتمين على أساليب عملها ومناهجها الإحصائية التي توصلت من خلالها لهذه النتائج!!

المشكلة... والحل:

إن الأمية بوصفها واحدة من أخطر العلل التي تعاني منها الدول الفقيرة، يتطلب تجاوزها والحد منها ومن آثارها الكارثية على حركة تطور المجتمع جهوداً دؤوبة ومستمرة من المعنيين بمحاربة الأمية من جهة ومن المجتمع ومؤسساته ومنظماته من جهة ثانية، ولابد أولاً من قرار سياسي جدي ومسؤول يضع هذه المشكلة الكبيرة في ذروة أولوياته ويسخر لها الإمكانيات المادية والبشرية لمعالجتها، ويعتمد الخطط الاستراتيجية (الحقيقية) والبرامج المنهجية للحد منها وفق جداول زمنية محددة.

وفي هذا الإطار نؤكد ضرورة العمل بالسرعة الكلية على مايلي:

1.  تطبيق إلزامية التعليم المجاني طوال مرحلة التعليم الأساسي بشكل حازم، وتوفير كافة الإمكانيات المادية والمعنوية للتلاميذ ولذويهم للالتزام بذلك.

2.     إعداد وتوفير الكادر التعليمي الكفء لكل المدارس، وخاصة تلك الموجودة في المناطق النائية.

3.     إعادة الاعتبار للمعلمين وإنصافهم وتحسين واقعهم المعرفي والمادي والاجتماعي.

4.     إعادة توزيع الدخل بشكل يسمح للفقراء بتعليم أولادهم والإنفاق عليهم وذلك بإطلاق حملة حقيقية لمحاربة الفساد.

5.     بناء المدارس في المناطق النائية وتوفير الكوادر اللازمة لها مع تأمين الحوافز المادية المناسبة لهم.

6.  إطلاق حملة وطنية مستمرة لمحو الأمية تشارك فيها جميع الفعاليات الرسمية والأهلية ودعمها مادياً وإرشادياً عبر وسائل الإعلان المختلفة.

إن أعداداً هائلة من الأطفال تدخل سنوياً في عداد الأميين، وهؤلاء لن يلبثوا أن يتحولوا إلى مشردين، وحين يصبحون شباباً سيلتحقون بجيش العاطلين عن العمل حيث ترتفع نسبة الأمية في صفوفهم إلى أكثر 65% (الآن)... فهل نستطيع ضمن هذه المعطيات وهذه الظروف أن نحقق النمو المطلوب، خصوصاً بعد أن تبنت الحكومة نظام السوق الذي لا يرحم الكادحين والمنتجين، وراحت تتغنى بفضائله، أم أن ما يراد لهذا الوطن من الفاسدين والمفسدين والأعداء الخارجيين المتربصين هو عكس ذلك كلياً؟ هذا هو السؤال...

■ جهاد أسعد محمد

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.