د.نزار عبد الله د.نزار عبد الله

رفع أسعار المازوت بنسبة 357 %.. والتضخم الجامح

مهمة السياسة الاقتصادية الحفاظ على ثبات الأسعار.. هذه إحدى مهماتها الثلاث بالإضافة إلى العمالة الكاملة، وتوازن الصادرات والواردات، فماذا أنجزت السياسة الاقتصادية؟

تصل البطالة المزمنة البنيوية في سورية لقرابة 50 % لدى القادرين على العمل. والواردات تساوي أضعاف الصادرات، والتضخم وصل إلى نسب مخيفة لأسباب داخلية وخارجية، ويعاني الاقتصاد من الكساد.. في هذا الوقت وهذه الظروف تم رفع سعر المازوت بنسبة 357 % وهذا خطأ فادح، وكمن يصب الزيت على النار! إذا سلمنا أن لكل اقتصاد منظومة أسعار خاصة به.

يدعو صندوق النقد والمصرف الدوليان لإلغاء الدعم في الدول النامية تنفيذاً لإملاءات الاستعمار الغربي- الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه الذي تظل فيه سياسة الدعم فاعلة في هذه الدول، خاصة للقطاع الزراعي، ولاتعلن وزارة المالية عندنا بشكل شفاف عن حجم الدعم المخطط، والفعلي، ولاحقاً، كل عام، وعن مبررات الدعم كما تفعل دول اقتصاد السوق والدول الاشتراكية والدول المتطورة. حصل ذلك مرة واحدة عام 2003، نُشر في جريدة الثورة بتاريخ 2/3/2004  (انظر الجدول رقم (1).

إننا نصدر القمح والقطن بخسارة! لأننا نبيعه بأقل من سعر الكلفة بكثير، فقد بلغت الخسارة أكثر من 26.5 مليار ل س عام 2003، وإذا قدرنا الخسارة خلال 10 أعوام نجد أنها أكثر من 265 مليار ل س. هذه هي الخسارة المباشرة، علماً أن نسبة مرتفعة من هذه الصادرات مروية. أي أننا نصدر الماء المادة النادرة في قطرنا، فأي رشاد اقتصادي هذا؟ إذا قدرنا الخسارة غير المباشرة وهي عدم تصنيع القطن والقمح  قبل التصدير، وهي القيمة المضافة التي كانت ستنجم عن ذلك، لوجدنا أن الخسارة  باهظة جداً، وتعادل أضعاف الرقم المذكور! هذا ليس دعماً للصادرات، بل تبديد للموارد الاقتصادية لتوفير عملات أجنبية لاستيراد سلع كمالية لبعض الشرائح الاجتماعية.

ذكر أيضا أن مصفاة حمص وبانياس تعانيان من عجز وصل إلى 22.2 مليار ل.س في العام نفسه. هذا خداع حسابي! تبيع الجهات المعنية النفط بأسعار التصدير للمصفاتين وتحملهما الدعم، في حين أنه يجب بيع المصفاتين بسعر الكلفة مضافاً إليه هامش ربح متواضع، وليكن 10 %، وتتحمل الدولة وليس المصفاتان الدعم. هنالك إبهام متعمد لإعطاء صورة مضللة للقيادة السياسية وللجمهور معاً. هنالك أسعار للداخل وأخرى للتصدير، وهنالك دعم للمازوت المستورد فقط، وليس للذي ننتجه محلياً. لكن لماذا نستورد المازوت ونحن نستطيع الاستغناء عن ذلك؟ إن تحويل وسائل النقل الطرقي لتعمل على الغاز، يغنينا عن استيراده.

تستهلك وسائل النقل أكثر من 2 مليون طن مازوت، هذا قبل الاستيراد الجنوني لوسائل النقل الطرقية. ألا يحتم الرشاد الاقتصادي ذلك؟ نحن نحرق الغاز بكميات كبيرة، ويقدر البعض قيمتها بـ10 مليون دولار يوميا. فوق ذلك نحن نملك موارد من الغاز كبيرة، وسنحصل على مليار م3 من الغاز سنوياً كرسم لخط الغاز القادم من مصر عبر قطرنا إلى أوروبا. ومن المنتظر أن نحصل على موارد إضافية من خط الغاز القادم من العراق إلى الغرب أيضا. منذ عقود ووسائل النقل في دول أخرى تعمل على الغاز، وقد عرضت الأمم المتحدة دعماً مالياً للدول التي تعتمد على الغاز حفاظاً على البيئة. الجهات المعنية رفضت ذلك وماتزال ترفض دون تبرير عقلاني. نحن العرب ننتج النفط ولنا مصلحة في ارتفاع أسعاره. يقضي الرشاد الاقتصادي أن نتحول إلى استخدام الغاز بأسرع وقت وأن نصدر منتجاتنا النفطية مصنعة، فنربح فوق ذلك الحفاظ على البيئة نظيفة، فالغاز يختزل أكثر من 90 % من أضرار المازوت، فنتفادى مليارات كلف التلوث، وتقتضي المصلحة الوطنية  تشييد أكثر من 10 محطات للتزود بالغاز والبدء الفوري بتحويل وسائل النقل الطرقي لتعمل على الغاز.

إن رفع أسعار المازوت بهذه النسبة الجنونية غير مقبول في اقتصاد سليم في العالم. إنه خطأ فادح والتراجع عنه فضيلة.

من المتوقع أن يرتفع سعر برميل النفط الخام إلى 200 دولار عام 2010، فكيف سنسعر المازوت عندنا والأجور متدنية؟. إن زيادة 25 % مقابل 357 % للمازوت زهيدة جدا بشكل يمكن إهمالها. لقد ارتفعت كلفة الإنتاج الزراعي لأن المازوت يستخدم في ضخ المياه والري والشحن، وارتفعت كلفة النقل قرابة 100 %.

 إذا قدرنا كلفة النقل الداخلي سنجد أنها ارتفعت بنسبة  100 % (ماتزال باصات  شركات النقل الداخلي العام لا تغطي إلا قسماً صغيراً من الطلب النقلي)، فعلى المشتغل أن يدفع 20 ل.س ×5 أشخاص ×30 يوما=3000 ل.س شهريا، للذهاب والإياب، هذا إذا كان يستقل «صرصوراً» واحداً، أما إذا كان مضطرا لاستخدام «صرصورين»، فيصبح المبلغ 6000 ل.س شهرياً، فماذا يبقى من راتبه للسكن والطعام والتعليم والطبابة واللباس الخ.؟ 

من جهة أخرى، ارتفعت كلفة الإنتاج في الصناعة وكل القطاعات الاقتصادية، وبالمحصلة فقد تراجعت القدرة الشرائية لغالبية المواطنين، وربح التجار فقط، وتراجعت القدرة التنافسية لكل شركاتنا ومؤسساتنا في القطاع العام والخاص والمشترك بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج والشحن. تصل حصة قطاع النقل من الناتج القومي الإجمالي إلى قرابة 16 % قبل رفع أسعار المازوت وإلى 10 % في الدول المتطورة. لقد زدنا الهوة اتساعا بيننا وبينهم فأبطأنا نمو ناتجنا القومي. وسطي الأجر في دول الإتحاد الأوروبي يعادل أكثر من 13 ضعفاً لوسطي الأجر عندنا، وما من خطط لرفع مستوى الأجور عند مدبري السياسة الاقتصادية! سيظل الكساد مهيمناً، وسيستفحل التضخم، وقد يصل إلى التضخم الجامح الذي يدمر الاقتصاد والمجتمع كالسيل الهادر! على السياسة الاقتصادية أن تحارب التضخم لا أن تؤججه.. أن تحسن القدرة التنافسية للاقتصاد لا أن تدمره.. أن ترشد التصدير فلا تصدر إلا السلع المصنعة ذات القيمة المضافة العالية وأن ترشد الاستيراد، فلا تسمح باستيراد إلا ما يعادل صادراتنا، مع إعطاء الأولية  لوسائل الإنتاج، لا أن تغرق البلد بالسيارات التي تضيق بها الشوارع وبالكثير من الكماليات. نحن مهددون بالغزو في أية لحظة، فأين اقتصاد الحرب؟ تراكم الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الأطلسي الحصار والعقوبات، فأين سياسات المواجهة والصمود؟ إن قدرة الجائع تضعف، مما سيخفض إنتاجية العمل أكثر بسبب الأجر المتدني وضعف التأهيل. وقدرتنا المادية للدفاع عن الوطن ستتراجع هي الأخرى حتماً.. مصلحة من يخدم ذلك؟ سيصبح السلم الاجتماعي مهدداً، وسترتفع وتائر الجريمة بسبب الفاقة والفقر المدقع. إن رفع أسعار المازوت يهدد بتدمير الاقتصاد وتخريب المجتمع. إنه تنفيذ لأوامر أعداء الوطن، ويجب الرجوع عنه على الفور وجعل وسائل النقل تعمل على الغاز، فلا نعود بحاجة إلى استيراده. وعندما نستخدم الطاقة الشمسية والضوئية، يتراجع استهلاك المازوت إلى أكثر من 80 % فماذا ننتظر؟ سنتحول إلى مصدرين للمازوت عوضاً عن أن نكون مستوردين له، وسنجني فوائد اقتصادية جمة، وسنتخلص من التضخم الجامح الذي تصنعه السياسة الاقتصادية، والذي يهدد أمن المجتمع والاقتصاد.

 دمر  التضخم الجامح الاقتصاد في دول السوق عام 1929.. فقد الناس مدخراتهم وأفلست الكثير من الشركات، وأصبح العامل يحمل حقيبة سفر ليضع فيها أجره الأسبوعي ويسرع إلى أقرب دكان ليشتري فيها قبل أن تنخفض قيمته الشرائية.لم يفق الناس بعد من هول هذا الإجراء المدمر، والأسعار توالي صعودها المجنون، مدمرة القاعدة المادية للجمهور، ولما يأت فصل الشتاء بعد حيث سيعاني الناس من البرد القارس.. والجوع.