د. قدري جميل في محاضرة «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور- الآفاق- الانعكاسات»..2/2 الأزمة اقتصادية اجتماعية سياسية.. وهي سائرة إلى مزيد من التفاقم

نشرت قاسيون في عددها الماضي الجزء الأول من محاضرة د. قدري جميل «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور- الآفاق- الانعكاسات»..التي ألقاها في المنتدى الاجتماعي مساء يوم الاثنين 26/1/2009، ونتابع اليوم نشر الجزء الثاني..

11 أيلول.. محاولة إنقاذ الدولار

يقول د. جميل:

«تنبأت أربعة معاهد عالمية صيف العام 2001 بوقوع حدث كبير قبل نهاية 2002 يكون بمثابة ذريعة لإنقاذ الدولار من أزمته المتفاقمة، وحددوا فترة وقوعه بين 15 آب و15 تشرين الأول، حيث توقعوا أن يضطر الدولار في هذه الفترة للدفاع عن نفسه مقابل خطر مقبل، لكن ما السبب؟ إنه ببساطة ظهور اليورو بكامل حجمه في 1/1/2002، وكان البنك الدولي قد طلب من الحكومة الأمريكية في حزيران 2001 أن تخفض قيمة الدولار 40% بالتدريخ بنحو 5 إلى 6% شهرياً كي لا يتلقى صدمة هبوط مفاجئة، أي طلب من الحكومة الأمريكية الانتقال إلى سياسة الدولار الضعيف. لكن أياً من هذا لم يحدث، بل جاءت أحداث 11 أيلول 2001 التي كانت المبرر للخروج إلى الحرب من أجل السيطرة على موارد الطاقة وإنهاء الأزمة الأمريكية، كضربة استباقية عسكرية للأزمة الاقتصادية المتوقع انفجارها في 2008، ولو تحقق الهدف الاستراتيجي العسكري المطلوب من «الغزوة» التي بدأت في 2001 لكان إنقاذ الدولار قد تحقق، لكن الذي حدث فعلاً ما يسمونه في العلوم العسكرية اليوم بـ«المقاومة المبعثرة» والتي تتم في كل من العراق ولبنان وفلسطين... والتي استطاعت كبح أكبر قوة عسكرية موجودة في التاريخ.

إن ما أصاب الأمريكيين فعلياً، هو أنه من المفترض أن ينتهي المخطط العسكري الاستراتيجي الذي أسمته الآنسة رايس بالشرق الأوسط الكبير والذي أسموه بالفوضى الخلاقة، كان المفترض أن ينتهي في 2008 قبل انفجار الأزمة، لكن بفعل الظروف لم يسر المخطط العسكري الاستراتيجي كما اشتهوا، ولم ينتهِ في وقته المحدد، فانفجرت الأزمة، وأصبحوا يعيشون الآن في أزمتين؛ الأزمة الاقتصادية وانفجارها، وأزمة عدم تحقيق الأهداف الاستراتيجية العسكرية حسب الخطة الأولى التي وضعها بوش. لذلك فهم اليوم في وضع لا يحسدون عليه!. 

إلى أين تتجه الأزمة؟

إلى أين تتجه الأزمة؟ لكي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا أن ندرس الأزمات السابقة، ولدينا في القرن العشرين أزمتان؛ الأزمة التي سببت الحرب العالمية الأولى، والأزمة التي سببت الحرب العالمية الثانية، وإذا درسنا مراحل تطور الأزمتين الأولى والثانية نجد أن المشترك بينهما هي الأمور التالية:

استمرت المرحلة الأولى لهما من سنة إلى سنتين وشهد فيها الاقتصاد إرهاصات الأزمة، أي ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد وارتفاع ضغطه إلى جانب مظاهر أخرى مختلفة مثل ارتفاع البطالة وانتحار رجال الأعمال الأمريكيين قفزاً عن ناطحات السحاب (التي تبين أن لها فائدة بشكل ما)، وبدأت الاضطرابات الاجتماعية التي استمرت ثلاث سنوات قبل إصابة الاقتصاد الأمريكي في 1932 باحتشاء في أوعيته وشرايينه بكل معنى الكلمة، بعد ذلك خرج الأمريكيون إلى الحرب التي كانت بمثابة جهاز إنعاش أخرج الاقتصاد الأمريكي من احتشائه، وبنهاية الحرب التي تمثل التعبير الأقصى عن التناقضات في هذه المنظومة، ظهر أن المنظومة باتت ضعيفة وتحتاج إلى بدائل، ولذلك ليس مصادفة أن تكون الأزمة الأولى والحرب العالمية الأولى أنتجتا الاتحاد السوفييتي، وليس مصادفة أن الأزمة الثانية والحرب العالمية الثانية أنتجتا منظومة الدول الاشتراكية، أي أن الأزمات أنتجت نقيضاً للنظام، ونحن اليوم نعيش الأزمة الثالثة من حيث التسلسل الزمني، ولا بد هنا من لفت النظر إلى قضية بسيطة وهي أن الأزمة الأولى أخرجت سدس البشرية من النظام الرأسمالي العالمي، والأزمة الثانية أخرجت ثلث البشرية (سدسيها) من هذا النظام، فما هي العلاقة بين الأزمتين الأولى والثانية بالتسارع؟ إنها الضعف في ظرف 20 عاماً!. نحن اليوم في الأزمة الثالثة، وهناك قانون يفعل فعله في هذا الاتجاه!.

كانت الرأسمالية في الأزمات السابقة تستطيع الخروج من الأزمة وقد خرجت مرتين، لكن يجب ألاّ ننسى أن ثمن الخروج من الأزمة الأولى كان 15 مليون إنسان، وأن ثمن الخروج من الثانية كان 55 مليون إنسان، والآن حين يسأل البعض عن وجود إمكانية للخروج من الأزمة الثالثة، فإن الجواب هو نعم، يمكن الخروج، ولكن ما هو الثمن لذلك، كم مئة مليون سيكونون ثمن الخروج من الأزمة الثالثة؟!. 

الحرب.. الرئة الحديدية للرأسمالية

يمكننا الاتفاق الآن على أنه لا يوجد مخرج اقتصادي بالمعنى البحت من هذه الأزمة، والمخرج الموجود هو سياسي عسكري، وأنا هنا لا أنفي عن الرأسمالية قدرتها على تجديد وإصلاح نفسها، ولكن كيف، وعلى حساب ماذا؟! وهل ستسمح البشرية لنفسها بأن تتحمل أثماناً جديدة تطلبها الرأسمالية للخروج من أزمتها؟!

قال إنجلز في أواخر حياته جملةً أعتقد أنها أصبحت حقيقة قال إن الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية، واليوم اسمحوا لي بالقول إن إنجلز أصبح على خطأ، فالرأسمالية لم يبق منها سوى هذه الرئة الحديدية، فقد أصبحت نظاماً مشوهاً، أعضاؤه غير متناسبة فصار كله رئةً حديديةً.

لقد رأينا المشترك بين الأزمات، لكن بماذا تختلف هذه الأزمة عن سابقاتها؟ كانت الحرب سابقاً تتم في حدود الرأسمالية التي كانت سائدةً في قارة أو قارتين، لذلك كانت الحرب تجري في مكان واحد أو مكانين، فالحرب العالمية الثانية عملياً لم تخرج من الحدود الأوروبية ولامست أطراف شمال إفريقيا وبعض أجزاء آسيا، لكنها كانت محدودة بالمعنى الجغرافي ويقال عنها عالميةً، لأن قوى كبرى عالمية شاركت فيها، لكنها لم تكن عالمية بمعنى أن كل القارات شاركت فيها، وهذا ينطبق على الحرب العالمية الأولى. لكن ما هي حدود الحرب الجديدة التي تستطيع إخراج الرأسمالية من أزمتها؟!

استطاعت الدول الرأسمالية في الحرب الأولى التخلص من الأزمة عبر إعادة توزيع المستعمرات فيما بينها، وفي الحرب الثانية توازعت الدول الرأسمالية الأسواق مغيرين الشكل الظاهري من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال الاقتصادي، وفي القرن العشرين قاموا بإعمال آلية هامة هي نظام البورصات وهي شكل من أشكال الاحتلال لأنها آلية شفط للثروات. لكن أين ستتوسع الدول الرأسمالية الآن؟ أين ستذهب الحرب؟ هناك فكرة هامة بهذا الخصوص، كان المخرج دائماً بعد كل حرب هو التوسع بالمعنى الجغرافي ليس فقط للدولار بل للاقتصاد الرأسمالي ككل، كان هذا التوسع قادراً على حل الأزمة، بغض النظر عن أعداد ونسب الضحايا، كان توسع النظام ينقذ النظام من أزمته السابقة، أما اليوم فقد انتهى التوسع إذ ليس هناك بقعة على الكرة الأرضية، اللهم باستثناء كوريا الشمالية وكوبا، لا يوجد فيها رأسمالية، لذلك أعتقد أن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة لأنها واسعة النطاق، ناهيك عن أن حروب الأزمات الماضية كانت تجري بأسلحة تقليدية وبين الكبار وحدهم، فهل من الممكن اليوم أن تجري حروب للكبار لكن بأسلحة ذرية؟ هذا الأمر غير مرجح بل المرجح والذي يتم الحديث عنه هو أن الحروب الجديدة بين الكبار ستجري على أراضي الغير على مساحات واسعة من أجل السيطرة على الموارد وتخفيف عدد البشر. 

قوس التوتر: من قزوين.. إلى القفقاس

هذه هي الأفكار العامة حول الاتجاه العام للحل، ولكن الإدارة الأمريكية خلال التنفيذ التكتيكي تضع وصفات مختلفة، حيث قامت إدارة بوش بوضع مخططها منذ 1995 ويتضمن ثلاثة أهداف استراتيجية؛ قريب ومتوسط وبعيد المدى، القريب كان تشغيل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يمثل 60% من حجم الإنتاج الصناعي الأمريكي، ويشغل 240 ألف مؤسسة مرتبطة بطلبيات البنتاغون، وتم بالفعل تشغيل هذا المجمع بغية إنعاش الاقتصاد الأمريكي. أما الهدف المتوسط المدى فكان الاستيلاء على النفط بشكل مباشر، خاصةً في منطقتنا التي يمثل احتياطيها 70% من احتياطي النفط العالمي، وذلك لتأمين نفط رخيص أو مجاني للاقتصاد الأمريكي وتحديد سعر عالمي مرتفع له بحيث تتم فرملة وإضعاف منافسي الاقتصاد الأمريكي الكبار، وخاصةً الصينيين والأوروبيين، وكانوا سائرين نحو تحقيق هذا الهدف لكنهم لم يبلغوه في الآجال الزمنية المطلوبة. وتحقيق الهدف الثاني كان يتطلب على المدى البعيد من أجل الاستمرار بامتلاك النفط تغيير البنية الجغرافية السياسية لكل المنطقة ذات العلاقة بهذا النفط، من هنا خرجت فكرة الشرق الأوسط الكبير وفكرة الفوضى الخلاقة.

لا تتفاءلوا كثيراً بأوباما، فقد جاء لينفذ المخططات نفسها في ظل انفجار الأزمة الاقتصادية: توسيع رقعة الصدام، تخفيض حجم التدخل الأمريكي المباشر في الصراع، إشغال الأوربيين والروس والصين بصدامات كبيرة، والمتوقع حسب رأي مركز الدراسات العسكرية الروسية أن كل المنطقة الممتدة من الحدود الباكستانية- الأفغانية إلى القفقاس ستتفجر، ولكن عبر التفجيرات الداخلية، بحيث يلعب الأمريكان دور الحكم والشرطي على هذه المساحة. هذا يحقق أهدافاً استراتيجية، لأنه يحدث فوضى عالمية في منطقة يسكنها مليارا إنسان، ماذا يؤمن هذا القوس؟

1 ـ تأجيل بحث وضع الدولار كعملة عالمية إلى أجل غير مسمى.

2 ـ مشاغلة المنافسين الكبار المحتملين: الصين ـ روسيا ـ أوربا، واستنزافهم عبر جرهم إلى معارك غير محدودة.

3 ـ التحكم بقوى صغيرة متنازعة، وامتلاك منابع الطاقة. 

الآفاق.. والمالتوسية الجديدة

حدود الأزمة عرفناها، فهل المخارج السابقة ممكنة؟ إنني أختلف مع بعض الاقتصاديين الذين ينظرون إلى الموضوع من جانبه الاقتصادي البحت، ولا يرون جانبه السياسي. النظام الرأسمالي اليوم أمام معضلة عميقة وعويصة.

وأرجح أننا سنكون خلال عشر السنين القادمة أمام عملية اسمها انهيار النظام الرأسمالي العالمي.. يقولون الأزمة معولمة، وإذا حدت انهيار سيكون انهياراً معولماً.. ستنهار المنظومة.

الاحتياطان الكبيران اللذان أنقذا الرأسمالية بالقرن العشرين استنفذا اليوم، وهما العالم الثالث والبيئة، فمن أين سيخترعون الاحتياط الثالث؟ أنا لا أرى أي مخرج للأزمة الرأسمالية الحالية.. خذوا بعين الاعتبار هذه الفرضية، فرضية انهيار المنظومة الرأسمالية بشكلها الحالي نهائياً، البديل: البشرية تنجزه، وهي التي ستجد نظامها التحرري الإنساني العادل الذي يؤمن التوازن في المجتمع وبين المجتمع والطبيعة، وكل الإرهاصات التي ترونها اليوم في أمريكا اللاتينية والشرق يمكن أن تشكل الملامح الأولية لهذا البديل.. مقاومات صغيرة بأسلحة بسيطة تقاوم آلات عسكرية كبيرة. الأمر فيه منطق تاريخي.. آلة كبيرة تسير ضد التيار التاريخي، وآلة صغيرة تسير مع التيار، ما قوة العطالة للآلتين؟ النتيجة: ما يزالان يتعادلان إلى الآن.. الآلة الكبيرة لا تستطيع دحر وهزيمة الآلة الصغيرة، التي يدفعها التيار التاريخي الموضوعي وتستطيع أن تصمد في وجه الآلة الكبيرة.. القضية متعلقة بإرادة بشر ومصالح أناس بسطاء قادرين على أن يعبروا عنها بلحظة معينة هم غير قادرين على حسابها، وهذا العامل أفشل مخططاتهم، وليس له سابقة عندهم في القرن العشرين بهذا الشكل الفاقع.. لذلك تبيّن أن برنامجهم فيه خطأ بالتصميم، وهذا الخطأ سيدفعون ثمنه غالياً.

ما هو المخرج الذي يريدونه؟ الحقيقة ليس هناك أي مخرج.. إنهم يراهنون على النظرية المالتوسية التي تحدثت عن أن البشر يتطورون بسلسلة هندسية بينما الموارد تتطور بسلسلة حسابية، وتأتي الزلازل والأمراض والحروب لتعديل الكفة بينهما.. اليوم، تجاوز هؤلاء مالتوس، وباتوا يريدون التحكم بالأمراض والحروب وغيرها من أجل أن يحافظوا على نمط توزيع الثروة: ثلاثة مليارات يبقون و3 مليارات فائضون، لذا يجب التخلص منهم..

نظرية المليار الذهبي نظرية معروفة، مليار يحكم ويملك، وملياران يخدمون، والباقي إلى زوال.

هكذا يريدون الحل.. لكن هل هو حل على أرض الواقع؟؟ هذا حل مجانين، إنهم يتخبطون ولا حلول لديهم.. وهنا لا بد من طرح السؤال الأهم: هل يمكن هزيمة المخطط الأمريكي؟.. أعتقد أن ذلك ممكن، وكل الشروط متوفرة.. ولكن المهم أن تتوفر الإرادة لتحقيق هذا الهدف الكبير.