التسعير الإداري.. أمر محسوم.. لماذا وكيف الآن؟!

التسعير الإداري.. أمر محسوم.. لماذا وكيف الآن؟!

تجتمع في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لجنة التسعير الإداري التي تتولى عملية تحديد أسعار المواد التي ستخضع للتسعير الإداري، .

بعد أن أصبح موضوع العودة الجزئية إلى تسعير مواد أساسية من الحكومة أمرا محسوما.
مع الارتفاع الكبير في المستوى العام للأسعار خلال عامي الأزمة، تردد كثيراً طرح عودة الحكومة إلى التسعير الإداري، أي أن تقوم الحكومة بتسعير مركزي لجملة من المواد الأساسية أو لكل المواد وتخرجها من إطار المنافسة في السوق، وتشير تصريحات المسؤولين بأن الهدف هو استعادة تسعير 80% من المواد المحررة.
التساؤل المشروع هو لماذا تأخر السير بإعادة التسعير الإداري، ولماذا لم تقرر الحكومة وببساطة أن تسعر المواد وتلزم التجار فيها؟ وهل الأمر بهذه البساطة..
فما الذي كان متوفراً سابقاً لتطبيق تسعير إداري، ولم يعد متوفراً اليوم، وما الذي يجعل التسعير الإداري مطروحاً اليوم بقوة وما علاقة الأزمة بإمكانية تحقيقه.. في عودة “لجو” نهاية السبعينيات والسياسة السعرية حينها، ولبداية الألفية وما بينهما نحاول أن نلقي الضوء على  التجربة السورية في التسعير لفهم إمكانيات الاستفادة منها اليوم في ظل الأزمة..

وبدأ ضرب المضاربين..!
بدأت خلال الأسبوع الماضي حملة كبيرة على مجموعة من مكاتب الصرافة المخالفة والرسمية التي ثبت تورطها في المضاربة على الليرة السورية، وعلمت «قاسيون» من مصادر خاصة أن العملية مستمرة وستطال المزيد من المخالفين، كما علمت أن الاعترافات التي بثتها الفضائية السورية والتي أدلى بها موظفون في مكتب «الشعار» للصرافة والذي قامت الدولة بإقفاله لاشتراكه في المضاربة، لن تكون الأخيرة ولكن ستتلوها اعترافات جديدة لمكاتب أخرى..
وكان من اللافت للنظر خلال الأسبوع الماضي أن الحملة التي انطلقت ضد المضاربين ترافقت مع تراجع تدريجي لسعر صرف الدولار أمام الليرة السورية. هذا وقد كشف النائب الاقتصادي د. قدري جميل في حديثه الأسبوعي لشام إف إم يوم الخميس الماضي أن الدولار المزور موجود في السوق السوداء بكميات هائلة..

السياسة السعرية بين الدولة والسوق: «من يعرض .. يُسعّر )

لا تستطيع جهة حكومية واحدة أن تأخذ قراراً بالعودة إلى التسعير الإداري في سورية، بدون أن تواجه ليس فقط قوى السوق ووزنها في جهاز الدولة، بل أيضاً أن تواجه التشريعات والقوانين التي سنت لترسخ عمل السوق وتراجع دور الدولة، أي أن تعمل على استعادة سياسات كاملة وتطويرها، وتلغي سياسات اقتصادية كاملة مع ما يتطلبه هذا من تغيرات بنيوية..
بدايات التسعير 1979ونهاياته..
خلال عقود عديدة جرى تغير كبير على السياسة السعرية في سورية، لتكون النتيجة المباشرة الانتقال من سياسة تسعير إداري لكامل المواد: «ركزت السياسة السعرية منذ اعتمادها في عام 1979 على الأخذ بمبادئ التكاليف الحقيقية للإنتاج والاستيراد لتحديد الأسعار مع مراعاة هوامش الربح لجميع الحلقات التي كانت تصدر تباعاً لكل نوع من أنواع السلع وما لم يصدر له قرار نسب أرباح تم تشميله بقرار عام للمواد الغذائية وغير الغذائية، وترافق ذلك مع سعر قطع واحد ودور مركزي لوزارة التموين سابقاً»  (من محاضرة في مجال السياسة العامة للأسعار –وفاء الغزي)، إلى سياسة تحرير للتجارة الداخلية بشكل كامل تقريباً يستثنى منها فعلياً ست مواد 3 غذائية (خبز وسكر ورز) و3 محروقات (مازوت، بنزين، غاز منزلي) لا تبلغ نسبتها من إجمالي السلة الاستهلاكية 7% وبعضها محرر جزئيا كالسكر والرز، والمشتقات محررة جزئياً بقوة السوق غير الشرعية، ويضاف إلى ذلك إلغاء لوزارة التموين ولدورها المركزي السابق في تحديد الأسعار وتحمل خسائر التسعير وذلك بموجب المرسوم 69 لعام 2003، ما كان إشارة لإلغاء سياسة التسعير نهائياً وثبت في الخطة الخمسية العاشرة.
مقارنة بين نهجين..
جاء من ضمن ما حددته الخطة الخمسية الخامسة في سورية كهدف من سياسات التسعير التالي:
- تحديد أسعار المنتجات المحلية و السلع المستوردة على أساس اقتصادي (التكلفة الحقيقية)
 تحديد سعر استهلاكي نهائي لجميع المواد الأساسية على أساس الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية.
 التوسع في استخدام الصندوق المعدل للأسعار الذي ينبغي دعمه أداةً لتحقيق أكبر قدر ممكن من استقرار الأسعار، ويتحمل كل الأعباء الناجمة عن التسعير الاجتماعي.
 اتباع سياسة سعرية موحدة في جميع أنحاء القطر للمنتجات المحلية والمستوردة مع إعطاء مرونة للسلطات المحلية في تحديد أسعار المواد الموسمية المحلية.
 استخدام السعر أداة وحافزاً اقتصادياً لزيادة الإنتاج وتحقيق توزيع عادل للدخول.
 إجراء بحث دوري سنوي لتكاليف المعيشة، يتم على أساس حساب رقم قياسي لأسعار المفرق تحدد بموجبه الزيادات الدنيا في الرواتب والأجور.
جاء في الخطة الخمسية العاشرة
عن الاستراتيجية والبرامج الرئيسية للتجارة الداخلية وأهدافها:
-إتباع استراتيجية تعزيز قوى السوق والمنافسة وبيئة التجارة والاستثمار، وتحويل مؤسسات القطاع التجاري للعمل بكفاءة وربحية.
-إلغاء القوانين التي تمنع المنافسة، وإعادة توصيف مهام ومراسيم مؤسسات التجارة الداخلية.
- التركيز الكبير على مفاهيم الالتزام بالجودة، والمعايير وحماية حقوق الملكية الفكرية التي تشترطها اتفاقيات التجارة الحرة والتي كانت بصدد التوقيع في حينها (اتفاقية التجارة العربية)
- اقتصرت الإشارة إلى السياسة السعرية التدخلية بإعادة هيكلة الدعم التمويني لمواد رئيسية (سكر, رز, خبز) لاستمراره وتوزيعه على مستحقيه.
الفرق الكبير بين الخطتين هو في نقطة الانطلاق ففي بداية الثمانينيات كانت نقطة انطلاق السياسة السعرية من كونها أداة حكومية في عملية تحفيز الإنتاج وعدالة التوزيع، أما نقطة الانطلاق في الخطة العاشرة فهي تأمين التنافسية للسوق وتحويل دور الدولة ومؤسساتها إلى دور إشرافي يقوم بالرقابة على الجودة وعلى سلامة التنافسية ويتدخل بالحد الأدنى للدعم التمويني فقط.
المحدد الجوهري للانتقال
لم تجر عملية تغيير السياسة السعرية بهذا المستوى إلا ضمن متغيرات عديدة، جعلت التسعير الإداري أمراً صعباً، فقد ظهرت متغيرات من أواسط الثمانينيات ترافقت مع تعدد سعر الصرف وتراجع دور القطاع العام مع تقدم في دور القطاع الخاص في الإنتاج المحلي وفي الاستيراد، ليصبح من غير الممكن أن يعتبر سعر التكلفة والإنتاج في القطاع العام هو المعيار الذي يفرض على أسعار القطاع الخاص، بالإضافة إلى ظهور عقبات أمام تحديد التكاليف الحقيقية نتيجة عدم إبراز فواتير حقيقية للجمارك وصعوبة تقدير النفقات المحلية من القطاع الخاص.
ولكن تبقى نقطة الفصل بين هذين الانتقالين الكبيرين هي من يمتلك العرض الأساسي في السوق (الدولة أم قوى السوق) يتحكم بعملية التسعير ويفرض القوانين والتشريعات التي تناسب مصالحه وهذا ما حصل في سورية.. فتراجع حجم قطاع الدولة العام وحجم مؤسساته بعمليتي الإنتاج والتوزيع وتحديداً في عملية التجارة بشقيها الداخلي والخارجي، بين مرحلة التسعير الإداري وبين عقد الألفية، مقابل زيادة حجم السوق والاستيراد الخاص، هذا الاتجاه العام لتراجع الدولة وتقدم السوق هو الذي فرض تغييرات في السياسة السعرية والتشريعات والقوانين المرتبطة بها.

: وقائع
 عام 1976 بلغت حصة القطاع الخاص من إجمالي الاستثمار 27% مقابل 73% للقطاع العام.
 عام 1985 في الصناعات التحويلية حصة القطاع العام 73,6% بينما حصة القطاع الخاص 26,4%، في عام 1990 ازدادت حصة القطاع الخاص في الصناعة التحويلية لتبلغ 44%.
 1986 القطاع الخاص 30% من إجمالي الواردات، عام 1994 62%.
 ازدادت مستوردات القطاع الخاص بين عامي 1980-1992 بنسبة 406% ، بينما تراجعت مستوردات القطاع العام في تلك المرحلة فقط بنسبة 11%.
 ازدادت بين عامي 2006-2009 مستوردات القطاع الخاص بنسبة 100%، بينما تراجعت مستوردات القطاع العام بنفس الفترة بمقدار 100%.
 في عام 2009 بلغت مستوردات القطاع الخاص خمسة أضعاف مستوردات العام