قرار في الاتجاه الصحيح يخص التجارة والسياسة النقدية

قرار في الاتجاه الصحيح يخص التجارة والسياسة النقدية

التوجه باتجاهات جدية نحو تغييرات في السياسة الاقتصادية خلال  الأزمة لم يزل غير محسوم حتى اليوم، فأصحاب القرار السياسي-الاقتصادي لم يحسموا أمرهم بعد بالتجرؤ وإجراء تغييرات على مستوى الأزمة لأن لديهم ميلاً للتسويف كي لا تتغير سياسات المرحلة المقبلة


، إلا أن قسوة الواقع الاقتصادي اليوم وشدة المستحقات تضع أصحاب القرار أمام تناقض كبير بين الضرورات التي يواجهها جهاز الدولة في اللحظة التي تتطلب منه استعادة وتطوير دوره ووزنه الاقتصادي من جهة، وبين إمكانيات هذا الجهاز وأدوات تحكمه الضعيفة التي أجهزت على الكثير منها سياسات الليبرالية السابقة بعد أن أعطت الهيمنة للسوق بانتهاج التحرير في كل شيء. وقرار الاستيراد الصادر والقائم على تنظيم الاستيراد وإيقاف تمويل جزء هام من المستوردات وقيام الدولة باستيرادها وتوزيعها بمستويات متعددة (مباشر، نصف جملة، جملة) يعطي إشارة بأن المستحقات أصبحت تفرض تغييرات لن نقول بأنها نوعية أو استعادة لجزء هام من دور الدولة حتى نرى القرار بالملموس وتطبيقاته على الأرض. إلا أن إيجابية القرار تكمن في عودة جزئية عن تحرير التجارة الخارجية وتركها بلا ضابط، وعودة عن تحرير السياسات النقدية وتداول القطع بلا ضابط أو معيار أيضاً.

خطوة للأمام.. بوجه «التحرير» الاقتصادي

خلال العقد الليبرالي السوري لم تضع السياسة الاقتصادية فكرة تأمين الدولة لاستيراد المواد الغذائية الرئيسية كأولوية، بل انحصرت المواد التي تستوردها الدولة بالسكر والأرز ولم تكن محسوبة على أساس الحاجات العامة، ولم يظهر عيب جدي في هذه السياسة نتيجة «الوفرة» واستيراد كميات كبيرة من سلع الاستهلاك النهائي والغذائي منها من القطاع الخاص والتي كانت تمول بالقطع من الاحتياطي، لحظة الأزمة كشفت عيب هذه السياسة وسلبية عدم جاهزية جهاز الدولة لتأمين المواد. فعلى الرغم من أن التجار السوريين بعلاقاتهم وخبراتهم استطاعوا في ظرف العقوبات أن يؤمنوا كل حاجات السوق ولم تنقطع مواد غذائية بشكل جدي خلال الأزمة، إلا أن ذلك لم يحم المواطن السوري من الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الرئيسية المستوردة والتي يكيفها التجار مع ارتفاع تكاليفهم مع الأسعار العالمية، بل وبأسعار احتكارية لم تستطع الدولة أن تمنعهم عن التحكم بها بما أنها لا تملك حصة جدية في السوق تمكنها من المنافسة وتأمين البديل.
الجديد في سياق التجارة..
كيف يشكل القرار إذاً عودة عن تحرير التجارة! إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في البنود التالية المستنتجة من القرار:
الدولة ستقوم باستيراد جملة مواد غذائية رئيسية (11مادة - السكر، الرز، الشاي، البن، السمون، الزيوت النباتية، السمسم، المعلبات مثل التونة والسردين) بنفسها وتقوم بتوزيعها.
التوزيع سيتم بأسعار مخفضة مناسبة لدخل المواطنين إما من خلال مؤسساتها أي بشكل مباشر للمواطنين،أو عن طريق البيع بالجملة للتجار في الموانئ ليقوموا بتوزيعها.
على التجار أن يقدموا طلب استيراد إلى مديريات الاقتصاد والتجارة الخارجية  ليتم البت بها،  وتتضمن منشأ ومصدر البضاعة، نوعها وكميتها والقيمة واسم المستورد، وهو ما يعني تنظيم عملية الاستيراد للموافقة على استيراد مواد وتقييد كميات بعضها الآخر.

مقترحات لإنضاج تنظيم التجارة
إذا كان الهدف من القرار هو تأمين مجموعة من المواد الغذائية والاستهلاكية الرئيسية بسعر مخفض للمواطنين في مواجهة ارتفاع أسعار السوق، فإن هذه العملية لن تكتمل إلا إذا اكتملت شروط الكميات الضرورية من جهة، وطريقة التوزيع الأمثل من جهة أخرى.
1- النوع الغذائي المتنوع والكميات الضرورية وليس أقل:
على الدولة كي تكسر السعر الاحتكاري وتؤمن سعراً مناسباً لتراجع مستوى الدخل أن تعمل على تحديد المواد التي تتكفل باستيرادها كي تشكل سلة غذائية متكاملة تحقق تأثيراً حقيقياً على الدخل، ولكل أسرة سورية، أي أن تضع اعتبارات النوع الغذائي المتنوع والكميات الكافية وليس بالحد الأدنى، لأن تأمين كميات اقل من حاجة السوق ستؤدي إلى نقص في المواد الغذائية وارتفاع قدرة التجار على وضع سعر احتكاري للكميات التي يستوردونها.
2- التوزيع المباشر أولوية:
كي تصل الفائدة بشكل حقيقي للمواطنين، على الدولة أن تركز على عملية التوزيع المباشر للمواد الغذائية الرئيسية التي تستوردها، أي عن طريق مؤسساتها قدر الإمكان، لأن الاعتماد على البيع للتجار بالجملة في الموانئ كما يرد في القرار لن يؤدي الغرض المطلوب بالمستوى نفسه، حيث سيعاد تحميل تكاليف النقل وهامش الربح التجاري -الاحتكاري منه في أغلب الأحيان- على سعر المستهلك.
بناء عليه يفترض أن يوضع في خلفية القرار الحكومي هدف تأمين سلة غذائية للمواطنين مكونة من جملة مواد أساسية ضرورية توزع عن طريق الدولة، ليترك لمن يرغب من التجار استيراد هذه المواد «بدولاراتهم» وتسعيرها بالسعر الذي يرغبون به، ولكن بعد أن تؤمن الدولة سلة غذائية بسعر مناسب لمستوى الدخل المتدهور.. والقرار يعطي إشارات بهذا الاتجاه ولكنه لا يضع هذا هدفاً..

الأثر على السياسات النقدية
القرار الصادر عن وزارة الاقتصاد والتجارة يهدف بحسب التوضيحات إلى «تخفيف الضغط عن السوق السوداء» ومنع عملية متاجرة التجار بالقطع الممول من المركزي لمستورداتهم، ونقل جزء هام منه إلى السوق السوداء، كان من الأفضل انطلاق القرار من أولوية الحفاظ على الاحتياطي من الهدر، سواء كان التمويل من المركزي أم غيره، ولكن الرؤية التي يعتمد عليها القرار صحيحة من جانب آخر حيث أن الكتلة الأساسية للقطع الذي يتم المضاربة عليه تأتي من المركزي، وجزء هام منها نتيجة عملية تمويل المستوردات.
على الرغم من أن القرار ينطلق من هدف مواجهة المضاربة على العملة عن طريق السلع، أي من هدف نقدي إلا أن الإجراءات ضيقة ومحددة في هذا الاتجاه، حيث ينحصر التأثير المباشر بأن القرار سيؤدي إلى إيقاف تمويل جزء هام من مستوردات القطاع الخاص محققاً بذلك إيقاف  هدر جزء هام من الاحتياطي وحصر توظيفه بالدولة التي ستقوم باستيراد المواد. عدا عن هذا فإن توضيح الوزارة  أشار إلى أن تمويل مستوردات القطاع الخاص ممكن أن يتم بطرق أخرى وفق الاحتمالات التالية:
من الأموال الخاصة بالمصارف السورية والمجمدة بموجب قرارات العقوبات الاقتصادية.
 أو أن يكون التمويل بأسلوب المقايضة وفق الأسس التي حددتها وزارة الاقتصاد.
أو أن يكون التمويل بموجب حوالات من الخارج لمصلحة المستوردين لاستخدامها في تمويل مستورداتها التي تتم الموافقة عليها أصولاً.
 عبر التسهيلات الائتمانية التي تقدم للمستوردين من المصدرين الخارجيين.
وجميع هذه الاحتمالات لا تشمل طريقة التمويل المباشرة السابقة أي مباشرة من الاحتياطي المركزي.

مقترحات لزيادة التأثير على السياسة النقدية
أشار تصريح لمدير الشركة العامة للمطاحن أبو زيد كاتبة، بأن الحكومة وضعت ثلاث قوائم لاستيراد المواد هي: الحمراء والصفراء والخضراء مصنفة وفق أنواع المواد ووفق وجوب التمويل من عدمه. إذا كان التصريح يشير إلى التعليمات التفصيلية للقرار فإنه يدل على ربط بين التجارة الخارجية والسياسة النقدية بحسب أنواع المواد ومستوى أهميتها، ومن الممكن أن نساهم في إدراج ثلاثة تصنيفات بعلاقتها مع تمويل المستوردات:
مجموعة أولى: مواد غذائية رئيسية أوسع مما أدرجته الحكومة لا تمول مستوردات القطاع الخاص منها، وذلك بناء على تأمينها حكومياً بالكميات الكافية، وستكون عمليات استيراد القطاع الخاص لها أقل حكماً.
مجموعة مستلزمات إنتاج: إذا كان لا بد أن تمول الحكومة مستوردات بالقطع الأجنبي، فعليها أن تمول المستوردات التي تساهم في خلق إنتاج محلي أو تساهم في تخفيض تكلفة إنتاجه وتوزيعه، وتحديداً الإنتاج الصناعي المستمر خلال الأزمة، والمتعلق بالصناعات الدوائية أو الصناعات الغذائية، أو مستلزمات الإنتاج الزراعي، والأجدى أن تترافق عملية التمويل بعملية تخطيط وتحديد المستلزمات الحقيقية ووفق الأولويات، وهذا ممكن من خلال الموافقات من مديريات التجارة، مما يسمح بضبط دقيق للكميات المستوردة وإمكانية حصر عملية تمويل القطع الأجنبي وبالتالي حصر استخدامه للمضاربة في السوق السوداء.
مجموعة الكماليات: وتقتضي ظروف الأزمة توسيعها، والتي لن تقوم الدولة باستيرادها أو بتقديم القطع لتمويلها، ويستطيع التجار استيرادها وتمويل القطع بطرقهم أو من مخصصاتهم، ما سيؤدي إلى ارتفاع في أسعارها الذي يفترض أن يعوض بزيادة الدخل الحقيقي عن طريق عملية تأمين المواد الغذائية بسعر منخفض، ومدعوم بشكل حقيقي.
المرونة في مواجهة الفوضى
القرار الصادر من وزارة الاقتصاد الذي يوسع حصة الدولة في السوق، من جهة ودورها في تنظيم الاستيراد من جهة أخرى فرصة لتجاوز فوضى السوق التي تسبب الكثير من الهدر في الأزمة، ولكن بالمقابل زيادة دور الدولة يتطلب زيادة مرونتها وتجاوز الكثير من العقبات البيروقراطية التي من حق التجار والمواطنين التخوف بشأنها، لأنها لن تسبب في لحظة الأزمة بطئاً في وتيرة الأعمال والنشاط التجاري فحسب، بل قد تؤدي إلى نقص في المواد الرئيسية التي يستطيع التجار تأمينها بسهولة ولكن بسعرهم..!!
تقييد فوضى السوق بزيادة دور الدولة.. يتطلب أن نقل هذا الدور نحو المرونة وإلا فإننا سنترحم على الفوضى!!